ربما لا يشكل حجم ما يسمى “الدين المخفي” قدراً كبيراً من إجمال الدين العام عالمياً، والذي يزيد على 89 تريليون دولار، لكن استمرار ممارسات اخفاء جزء مهم من الاقتراض الحكومي يمكن أن يفاقم أزمة الدين العالمي، بحسب ما حذرت ورقة بحثية لصندوق النقد الدولي.
وقدرت الورقة التي جاءت تحت عنوان “الأسس القانونية للشفافية حول الدين العام” حجم الديون المخفية التي لا تفصح عنها الحكومات في نحو 60 دولة شملتها الدراسة بقرابة تريليون دولار.
والمقصود بـ “الدين المخفي” الاقتراض الحكومي الذي يشكل عبئاً على الخزانة العامة، لكن الحكومات لا تفصح عنه لمواطنيها أو لدائنيها.
ويشكل مثل هذا الدين ضرراً على الاقتصاد بصورة عامة، على رغم أن هدف إخفائه هو ألا يظهر في دفاتر الحساب الجاري الرسمية، لكن ذلك لا يعني أن تتحمل الموازنة في النهاية تغطية كلفة خدمتها من فائدة وأقساط.
وتزيد أخطار الضرر على الاقتصاد في البلاد ذات الدخل الضعيف وخصوصاً تلك التي ترزح تحت عبء ديون كبير،
ومع تضاعف عبء خدمة الديون بنحو ثلاثة أضعاف خلال الأعوام الأخيرة نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة وإعادة تمويل بعض القروض المستحقة بكلفة اقتراض مضاعفة، تزيد أخطار “الدين المخفي” على اقتصادات كثير من الدول النامية والصاعدة.
ثغرات قانونية
ومع أن ورقة صندوق النقد الدولي تتعلق بمسألة الإفصاح والشفافية في شأن الدين لمنع تفاقم مشكلة الديون المخفية، إلا أن هناك ممارسات أخرى حتى في دول متقدمة تستهدف “ضبط الدفاتر” لأهداف سياسية، ومثال ذلك ما واجهته الخزانة البريطانية من انتقادات العام الماضي بتعديل القواعد التي على أساسها تحسب نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
وحين صرح رئيس الوزراء ريشي سوناك بأن الدين ينخفض قال مكتب مراقبة الموازنة المستقل إن “ذلك ليس صحيحاً، بل إن الدين الحكومي يرتفع إنما وزارة الخزانة عدلت القواعد المحاسبية لكي يبدو حجم الاقتراض عكس الواقع الفعلي”.
وبالعودة للورقة البحثية لصندوق النقد فإن أقل من نصف الدول التي شملتها الدراسة هي التي بها قوانين تضمن الكشف عن إدارة الديون وإصدار تقارير مالية سليمة، بينما أقل من ربع تلك الدول هي التي بها قوانين وقواعد ملزمة بالإفصاح عن المعلومات المتعلقة بمستوى الديون العامة، وتشير الدراسة إلى ثغرات قانونية تسمح للحكومات بعدم الشفافية وتفادي المساءلة بإخفاء بعض الديون العامة.
ومن أهم تلك الثغرات التعريف الضيق والمحدود للدين العام وعدم توافر ضوابط قانونية تلزم بالإفصاح وبنود السرية في بعض اتفاقات الاقتراض، وعدم فعالية المراقبة والمساءلة، ففي كثير من الدول يؤدي التعريف المحدود للدين العام في قوانين البلاد إلى أن تكون بعض الديون السيادية خارج نطاق المساءلة، مما يجعلها ديناً مخفياً.
ويطالب صندوق النقد الدولي بتوسيع تعريف الدين العام في القوانين ليشمل كل أشكال الاقتراض، مثل المشتقات الاستثمارية وعمليات المبادلة والاعتماد الائتماني والضمانات، وليس فقط القروض وسندات الدين السيادي، وكي تكون القوانين شاملة يتعين أن يتضمن تعريف الدين العام أيضاً صناديق الموازنة الإضافية والصناديق العامة وغيرها من أدوات التمويل لأغراض خاصة.
ومن بين الدول التي تعتمد تعريفاً أوسع واشمل للدين العام في قوانينها الإكوادور التي عدلت القانون عام 2020 ليشمل حساب الدين العام أدوات التمويل قصير الأجل، مثل أذون الخزانة لأقل من عام، وكذلك فعلت دول مثل غانا وجاميكا وتايلاند وفيتنام، إذ عدلت قوانينها لتشمل كل أنواع الدين في تعريف الدين العام.
الشفافية والمساءلة
وتشير ورقة الصندوق إلى أنه في معظم دول العالم لا توجد ضوابط قانونية كافية تلزم الحكومات بالإفصاح عن الدين العام، ولفتت إلى أن هناك أخطاراً في عدم الإفصاح عبر تقارير دورية ومفصلة عن بيانات الديون بما يسهل مهمة تحليل السياسات الاقتصادية ويضمن الشفافية والمساءلة، ومن الدول التي لديها قواعد قانونية ملزمة بالإفصاح الدائم عن الدين بصورة واضحة ومفصلة بنين وكينيا مثلاً، بحسب ما ذكرت الدراسة.
ومن الممارسات التي تعوق الشفافية البنود السرية في بعض اتفاقات وعقود الدين العام، إذ لا توجد قواعد قانونية في معظم دول العالم تحد من جعل اتفاقات الدين سرية لاعتبارات الأمن القومي أو لأية اعتبارات أخرى.
ومما يضاعف هذه المشكلة أن المعايير الدولية المتعلقة بالدين والاقتراض العام لا تتضمن ما يكفي لمواجهة مشكلات سرية اتفاقات القروض.
ويقترح الصندوق تعديل القوانين بما يجعل الاستثناءات من الإفصاح عن الدين في أضيق الحدود، وأن تكون هناك مراقبة دقيقة لتطبيق ذلك، وتضرب الدراسة مثالاً باليابان ومولدوفا اللتين يلزم فيهما القانون إطلاع البرلمان والمجالس التشريعية على البيانات والمعلومات السرية المتعلقة باتفاقات الدين.
وهناك أيضاً مشكلة المراقبة والتدقيق في اتفاقات القروض وأدوات الدين العام إجمالاً من جانب البرلمانات والمجالس التشريعية، وأيضاً من قبل أجهزة المحاسبة والمراجعة العليا في البلاد، إذ يطالب الصندوق الدولي بضرورة مراقبة البرلمانات للدين العام وتدقيق شروط اتفاقاته نيابة عن الشعوب، كما يتعين أن يتوافر للبرلمان متخصصون يمكنهم الاطلاع بوضوح على اتفاقات الدين واستيعاب تفاصيلها الدقيقة كي تكون المراقبة فعالة.
ومع أن معظم البرلمانات لديها لجان نوعية لمتابعة الوضع المالي للحكومة وممارساتها إلا أن تقارير الدين العام غالباً لا تحظى بالمراقبة الكافية، وهذا ما يمكن الحكومة من إخفاء بعض ذلك الدين، وكذلك يوصى الصندوق أيضاً بمنح هيئات المحاسبة والمراجعة الرسمية سلطات كافية لمتابعة وتدقيق كل التزامات الدين على الحكومة.