فجرت صورة من حفل خاص بمناسبة ذكرى تأسيس جهاز المخابرات التركية أزمة واسعة النطاق في الشارع التركي، بعدما قام سياسيون ومسؤولون رفيعو المستوى بنشرها على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، ما أثار ضجة كبيرة لجهة “الإفشاء بهويّات أفراد الجهاز”، الذين يفترض أن تحيط بتفاصيلهم وشخصياتهم سرّية تامة نظراً لحساسية عملهم.
وأجبرت انتقادات وسائل الإعلام والأصوات العالية للنشطاء الأتراك، المسؤولين وناشري الصورة على تعديل منشوراتهم وإزالة بعض الصور من حساباتهم الرسمية، ومنها الحساب الشخصي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان على موقع التواصل الاجتماعي “إكس” (تويتر سابقاً).
نشر الصور وإزالتها
وفي التفاصيل، فقد قام الحساب الرسمي لأردوغان، الذي حضر فعاليات الذكرى الـ97 لتأسيس وكالة الاستخبارات الوطنية (MİT) في مقر الوكالة، بمشاركة الصور التي التُقطت في القاعة أثناء خطاب الرئيس بهذه المناسبة.
وأظهرت الصورة وجوه المشاركين، خصوصاً من الجالسين في الصفّ الأول، وبينهم أفراد من مستويات عالية في جهاز المخابرات التركي، بالإضافة إلى صور جماعية لهم مع أردوغان.
ولاحقاً، قام العديد من مسؤولي حزب العدالة والتنمية الحاكم، وشخصيات حكومية رفيعة المستوى، وعلى رأسهم وزير العدل يلماز تونش، بنشر الصور ذاتها عبر حساباتهم الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، لتعلو أصوات النشطاء المنتقدة والمتّهمة إيّاهم “بالفوضوية وقلة الانتباه”.
وعلى إثر هذه الانتقادات، قام الحساب الشخصي للرئيس التركي بتعديل منشور خبر مشاركة أردوغان في الحفل، عبر إزالة الصور الخاصة بالقاعة والحضور والخطاب، والإبقاء على صورتين فقط، تظهر إحداهما وجه الرئيس التركي أثناء إلقائه الخطاب، والأخرى لقص شريط الاحتفال بمشاركة وزراء من الحكومة وضباط من الجيش ورئيس الجهاز إبراهيم قالين، الذي شغل سابقاً منصب الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية… وتبعته في الخطوة المذكورة جميع الحسابات الرسمية والشخصية للمسؤولين الأتراك.
الوقوع تحت طائلة “قانون العقوبات”
ويحكم قانون العقوبات التركي بالسجن لمدة تتراوح بين سنتين إلى ثماني سنوات بحق كل من يقوم بفضح العاملين في الجهاز الاستخباراتي الأعلى في البلاد.
وتنص المادة 27 من قانون وكالة المخابرات الوطنية التركية على أن “أي شخص يقدّم وثائق أو معلومات تتعلق بواجبات وأنشطة جهاز المخابرات الوطنية، يعاقب بالسجن المشدد لمدة تتراوح بين سنتين وثماني سنوات، ما لم يستلزم الفعل عقوبة أشد”.
وكان كل من الصحافي باريش ترك أوغلو والصحافية هوليا كيلينش قد تعرّضا للمحاكمة بسبب نشرهما خبراً عن جنازة أحد أفراد جهاز المخابرات التركي قتل في ليبيا في 5 آذار (مارس) 2020. كما تم حجب الموقع الأخباري لقناة “OdaTV” التركي واعتقال رئيس تحريره، الصحافي باريش بهليفان، بالتهمة ذاتها.
مطالبات بمحاكمة المسؤولين
وفي تصريحات إلى “النهار العربي”، قال الصحافي باريش ترك أوغلو إنه “نتيجة الضجّة التي أثارها الجمهور على نشر صور مشاركة الرئيس في ذكرى تأسيس جهاز المخابرات الوطنية، والتي أظهرت وجوه العديد من أفراد الجهاز السري علناً، اضطر حساب الرئاسة وحساب وزارة العدل إلى حذفها… لكن الحذف جاء بعد فوات الأوان، وتم إفشاء تلك الشخصيات وفضحها”.
وروى ترك أوغلو أنه “قبل 4 سنوات، تم اعتقال مجموعة من الصحافيين، بمن فيهم أنا، ومحاكمتهم بسبب خبر عن تشييع أحد شهداء جهاز الاستخبارات التركية، على الرغم من أن الشخص المعني كان متوفّى”.
وأضاف أن “ذريعة اعتقالنا في حينه كانت الكشف عن هوية رجل مخابرات، أي تحديداً ما تم من خلال الصور الأمس، حين تم فضح شخصيات حيّة وعلى رأس عملها”.
وطالب ترك أوغلو القضاء التركي بمحاسبة المسؤولين على هذه الصفحات، قائلاً “تم سن القانون من أجل مثل هذه الحالات، لذلك، إذا كان القانون سارياً على الجميع فليحاكم المسؤولون في رئاسة الجمهورية ووزارة العدل، وإلا يجب ألا يتحدّث أحد بعد اليوم عن قيم لا يؤمن بها؛ كالوطن والأمة”، في إشارة إلى كلمة وزير العدل خلال تسلّم منصبه في حزيران (يونيو) الماضي. ولكنه أردف قائلاً: “بالطبع نحن نعلم أن ذلك لن يحدث”.
أزمة سابقة
الدعوى المرفوعة على ترك أوغلو وزملائه بسبب نشر خبر وفاة عميل المخابرات التركية في ليبيا ليست الأولى التي كانت وكالة المخابرات الوطنية طرفاً فيها ضد صحافيين ووسائل إعلام، فقد سبقتها دعاوى عديدة، أشهرها “قضية شاحنات المخابرات التركية”، التي حُكم فيها على رئيس تحرير صحيفة “جمهوريت” السابق، جان دوندار، بالسجن لمدة 27 عاماً و6 أشهر بتهمة “التجسس” و”مساعدة منظمة إرهابية مسلحة”.
وفي التفاصيل، وفي 19 كانون الثاني (يناير) 2014، تم إيقاف 3 شاحنات متجهة إلى سوريا من قبل قوات الدرك والشرطة في ولاية هاتاي (لواء اسكندورن) بأمر من مكتب المدعي العام.
ومن خلال تفتيش الشاحنات تبيّن أنها تحتوي على كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر متّجهة إلى سوريا، حيث صدر البيان الأول للسلطات بشأن الحادث بالقول إن “المواد الموجودة في الشاحنات هي سر من أسرار الدولة”، قبل أن تضطر الحكومة التركية بعد نشر الخبر للاعتراف بأن الشاحنات تابعة لجهاز الاستخبارات التركي، لكنها أكّدت أنها “تحتوي على مساعدات إنسانية”.
وتم فتح تحقيق ضد المدعي العام والجنود والشرطة. واتّهم كل من المدعي العام السابق في أضنة سليمان باغريانيك، ونائب المدعي العام أحمد كاراجا، والمدعي العام عزيز تاكجي، والمدعي العام أوزجان شيشمان، والعقيد أوزكان جوكاي، بـ”محاولة إطاحة حكومة الجمهورية التركية باستخدام القوة والعنف وتم اعتقالهم في أيار (مايو) 2015.
وفي 29 أيار (مايو) 2015، نشرت صحيفة “جمهوريت” تفاصيل القضية في مقالة بعنوان “هذه هي الأسلحة التي قال أردوغان إنها غير موجودة”، تضمن معلومات عن نقل الأسلحة إلى سوريا، مرفقة بصور مأخوذة من ملف مكتب المدعي العام كدليل.
واتُّهم الصحافي التركي المخضرم جان دوندار إثر ذلك من قبل الرئاسة التركية وجهاز المخابرات الوطنية بـ”الحصول على معلومات سرية بغرض التجسس السياسي أو العسكري”، فيما اعتبرت المحكمة الدستورية التركية نشاط دوندار “ضمن معايير العمل الصحافي”.