اتفق خبراء التراث أن مفهوم صون التراث المشترك، هو فعل وفاء للذاكرة الإنسانية، وأنه حماية لما صنعته يد الإنسان وروحه عبر قرون طويلة. فالتراث يحمل في جوهره سردية الحياة نفسها، بما تختزنه من قيم وتجارب ومعانٍ، شكّلت وجدان الشعوب، وأسهمت في بناء الحضارة الإنسانية الجامعة.
يمتد هذا التراث في أبعاده المادية التي نراها في المواقع الأثرية، والمباني التاريخية، والقطع الفنية، كما يعيش في أبعاده غير المادية، التي تسكن الذاكرة الحية، في الحكايات الشفهية، وفنون الأداء، والعادات والتقاليد، والمعارف المتوارثة، وهذا الامتداد يمنح التراث قدرته على الربط بين الأجيال، ويجعله لغة مشتركة، يفهمها البشر على اختلاف ثقافاتهم وأوطانهم.
تكمن أهمية صون التراث المشترك، في دوره العميق بترسيخ الهوية، الوطنية والإنسانية معاً. فهو يمنح المجتمعات شعوراً بالاستمرارية، ويؤكد تواصل الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل، كما يفتح آفاقاً واسعة لبناء الجسور بين الشعوب، حيث يتحول التعرف إلى الموروث المشترك، إلى مدخل للحوار الحضاري، وتعزيز قيم التسامح، واحترام التعددية الثقافية، والاعتراف بثراء التجربة الإنسانية.
ويمتد أثر التراث، ليصل إلى مسارات التنمية المستدامة، إذ تشكّل المواقع الثقافية والطبيعية روافد اقتصادية مهمة للمجتمعات المحلية، من خلال السياحة الثقافية، وخلق فرص العمل في مجالات الترميم والتوثيق، وإدارة المواقع. وبهذا المعنى، يصبح التراث كنزاً فكرياً وإبداعياً، يوازن بين حفظ الذاكرة واستثمار الحاضر، ويمنح التنمية بعدها الإنساني العميق.
أرست منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، أسس التعاون العالمي في حماية التراث، عبر اتفاقيات شكّلت مرجعاً قانونياً وأخلاقياً لصون الإرث الإنساني، وأسهمت اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972، واتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003، في ترسيخ مفهوم القيمة العالمية الاستثنائية، وتعزيز مسؤولية الدول في حماية تراثها، وإدماج صونه في السياسات العامة وبرامج التخطيط.
وقد ارتبط اهتمام دولة الإمارات بصون التراث منذ البدايات الأولى لقيام الاتحاد، حين تشكّل الوعي بأهمية حفظ الذاكرة الوطنية، باعتبار أنها أساس لبناء المستقبل. فأولت القيادة الرشيدة منذ عهد المؤسسين عناية خاصة بالموروث الثقافي، إدراكاً لقيمته في ترسيخ الهوية وتعزيز الانتماء، فكانت حماية المواقع التاريخية، وجمع الروايات الشفهية، ورعاية الفنون الشعبية، جزءاً أصيلاً من مشروع الدولة التنموي، وهذا الاهتمام المتراكم عبر العقود، أسس لنهج ثقافي متكامل، جعل من التراث عنصراً حياً في الحياة اليومية، ومجالاً مفتوحاً للبحث والتوثيق والتعليم، والمشاركة المجتمعية.
وانطلاقاً من هذا الوعي، جاءت مشاركة دولة الإمارات، ممثلة بوزارة الثقافة، في أعمال الدورة الثانية للجمعية العامة لتحالف التراث الثقافي في آسيا، التي استضافتها مدينة تشونغتشينغ في الصين، تأكيداً على حضورها الفاعل في الجهود الدولية المعنية بصون التراث الإنساني، وقد عكست هذه المشاركة التزام الدولة بتعزيز التعاون الإقليمي والعالمي، والعمل المشترك في مجالات البحث والترميم، والتوثيق الرقمي، وحماية التراث المادي وغير المادي.
ويأتي هذا النهج الثقافي، مدعوماً باهتمام خاص من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، الذي يرى في التراث ركيزة أساسية في بناء الإنسان، وتعميق الانتماء، وترسيخ الهوية الوطنية. فقد ارتبطت رؤية سموه بإيمان عميق بأن صون التراث يحفظ توازن المجتمع، ويمنح الأجيال القادمة جذوراً راسخة، تنطلق منها نحو المستقبل بثقة ووعي. ويتجلى هذا الاهتمام في دعم المشاريع الثقافية، ورعاية المواقع التاريخية، والمبادرات التي تحمي التراث الإنساني داخل الدولة وخارجها، بروح المسؤولية الهادئة، التي تجعل من الثقافة جسراً للمحبة والتفاهم بين الشعوب.
وعند التأمل في صون التراث المشترك، يتبدّى هذا الجهد بوصفه حواراً هادئاً بين الإنسان والزمن. هو فعل إنصات لما تركه السابقون، واحترام لما صاغته التجارب، ومسؤولية تُمارَس بمحبة ووعي، فالتراث يذكّرنا بأن الحضارة لا تُبنى في لحظة، وأن الذاكرة الإنسانية تحتاج إلى من يرعاها، ويمنحها الاستمرار، ويؤمن بأن ما نتركه اليوم، سيصبح غداً مرآة لمن نكون. لذلك، يغدو صون التراث فعلاً أخلاقياً عميقاً، يحفظ للإنسان جذوره، ويمنح العالم مساحة أوسع للتلاقي، ويجعل من الثقافة لغة جامعة، تتجاوز الحدود، وتحمل في طياتها وعد الاستمرارية والمعنى.
من وجهة نظري، ووجهة نظر خبراء التراث المتابعين والمهتمين، فإن الإمارات تمضي في مسارها الثقافي بثبات، حاملة رسالة إنسانية، ترى في التراث ذاكرة العالم، وفي صونه عهداً أخلاقياً، يحفظ ما كان، ويمنح ما سيكون معنى أعمق، وامتداداً أكثر إشراقاً.

