سعت الدولة التونسية منذ الاستقلال إلى تركيز بعض الصناعات المهمة لبناء اقتصاد وطني على غرار صناعة التعدين والصناعات الكيماوية التي ارتبطت بإنتاج الفوسفات وغيرها، وذلك بإنشاء مصانع ومجمعات كبرى اعتُبرت من مفاخر دولة الاستقلال. وبما أن التعليم حظي بنصيب الأسد من الاهتمام في ذلك الوقت، إذ خصصت له الدولة ثلث موازنتها، فقد كان من الضروري توفير مستلزماته وعلى رأسها الورق الذي ستصنع منه الكتب والدفاتر المدرسية. أنشأت الدولة مصنعاً للورق في ولاية القصرين، وذلك من خلال العجين المستخرج من نبتة الحلفاء، وهي عشبة طبيعية متوافرة بكميات كبيرة في منطقة الوسط الغربي، وتحديداً ما يعرف في تونس بمنطقة السباسب العليا. وقد ساهم هذا المصنع في توفير الورق لأجيال من التونسيين ارتقوا في سلم العلم والمعرفة، كما مكّن البلاد من تصدير منتجاتها إلى الخارج وتوفير العملة الصعبة، حتى بات الكراس أو الدفتر التونسي محبذاً في الأسواق بالنظر إلى جودته وانخفاض سعره. وقد تسبب انخفاض سعر الدفتر التونسي في المكتبات المغربية بأزمة بين تونس والمغرب، بعدما قام الأخير، للمرة الثانية، بفرض رسوم إضافية على الدفاتر المدرسية التونسية خلافاً لقرار منظمة التجارة العالمية التي تقدمت تونس بشكوى لديها في وقت سابق بسبب رسوم سابقة فرضها المغرب. وصدر قرار فرض الرسوم الجديدة، المخالف لقرار منظمة التجارة العالمية ولاتفاق التبادل التجاري الموقع بين البلدين سنة 1999، عن وزارتي الصناعة والمالية المغربيتين ويمتد إلى مطلع العام 2025 مع إمكان تجديده أو إلغائه.
احترام المنافسةوفي هذا الإطار يرى الخبير الاقتصادي التونسي عماد بالرابح في حديث إلى “النهار العربي” أن ما قام به المغرب “يسيء إلى العلاقات الثنائية بين البلدين وإلى اتفاق التبادل الحر بين البلدين الموقع سنة 1999، ولا يشجع على التجارة البينية بين البلدان المغاربية والعربية. لقد كان على المغرب أن يطور جودة إنتاجه المحلي ليكون قادراً على المنافسة وأن يضغط على تكاليف الإنتاج حتى يتمكن من بيع منتجات مصانعه بالسعر الذي يباع به المنتوج التونسي”. ويتساءل: “ما ذنب التونسيين أنهم ينتجون ورقاً عالي الجودة ودفاتر للدراسة بسعر يتماشى مع القدرة الشرائية للمواطن المغربي البسيط الذي لا يُقبل على منتوج بلاده الأقل جودة والأعلى سعراً؟ ما ذنب التونسيين أن المادة الخام لصناعة الورق، وهي نبتة الحلفاء متوافرة لديهم ولا يجدون عناءً في تحصيلها، ما يساعدهم على صناعة الورق بتكلفة منخفضة بينما غيرهم قد يستورد المواد الأولية من الخارج؟”. ويلفت بالرابح إلى أن جودة الدفاتر والورق التونسي سببها أن هذه الصناعة قديمة وتعود إلى السنوات الأولى للاستقلال، “وهو ما جعل التونسيين يراكمون التجارب فيها ويطورونها حتى تصبح قادرة على المنافسة. وما على المغرب إلا النسج على منوال التونسيين عوض محاصرة إنتاجهم بالرسوم الإضافية، وبذلك يمكنه إقناع المستهلك بالإقبال على المنتوج المحلي ويدفع أصحاب المكتبات المغربية لصرف النظر عن المنتوج التونسي”.
تشجيع الإنتاج المحليويعتبر الباحث في المركز المغاربي للبحوث والدراسات والتوثيق مروان سراي أن ما دفع المغرب لاتخاذ مثل هذا القرار هو رغبته في تشجيع إنتاجه المحلي ودعم قدرته على المنافسة في السوق المحلية، كما أن البعض يرجع هذا التضييق على المنتوج التونسي في الأسواق المغربية، بحسب السراي، إلى الأزمة التي نشأت بين البلدين بسبب استقبال تونس رئيس جبهة البوليساريو إبراهيم غالي بمناسبة انعقاد القمة اليابانية الأفريقية في تونس، باعتبار أن الاتحاد الأفريقي الذي ينتمي إليه المغرب أيضاً يعترف بالبوليساريو كدولة تحت مسمى “الجمهورية العربية الصحراوية”. ويضيف السراي: “انقسمت الآراء في المغرب بشأن هذا الملف، فثمة من يبارك فرض الرسوم على الدفاتر التونسية رغبة في تشجيع المنتوج المغربي غير القادر على المنافسة من دون تدخل الدولة. وثمة من يرى أن هذا الإجراء غير عادل، إذ فكرت من خلاله الحكومة المغربية في الصناعيين وفي قدرتهم على المنافسة، ولم تفكر في المواطن الذي بات سعر الدفتر مرتفعاً بالنسبة إليه مقارنة بمقدرته الشرائية”. ويوضح أنه “من خلال هذه الرسوم اضطر أصحاب المكتبات إلى بيع الدفتر التونسي بسعر مرتفع نسبياً، فلم يعد المواطن البسيط قادراً على اقتنائه، كما أن الدفتر المغربي لم ينخفض سعره حتى يشجع المواطن على الإقبال عليه. وبالتالي فقد زاد هذا الأمر من معاناة المغاربة بسبب ارتفاع أسعار الأدوات المدرسية التي زادت زيادة لافتة في السنوات الأخيرة، وزادت من معاناة الأولياء المطالبين بتوفير مستلزمات تدريس أبنائهم”.