أسامة رمضاني
تزخر منصّات التواصل الاجتماعي بصور التونسيين وهم يصطفون في طوابير للحصول على حاجياتهم. لم يبلغ فقدان المواد الغذائية في تونس مستوى يهدّد المواطنين في حاجاتهم الحيوية بشكل دائم، لكنه أصبح مشكلة مزعجة ترافقهم في حياتهم اليومية. يتواصل غياب بعض المنتجات من حين إلى آخر وذلك لأسباب مختلفة، من بينها اضطراب مسالك التوزيع وشح الموارد المالية المتوفرة بالعملة الصعبة، في ظلّ احتكار الدولة لصلاحية استيراد بعض المواد. وزاد الطين بلّة بكل تأكيد ضلوع بعض التجار في الممارسات الاحتكارية والمضاربات. هناك الطوابير البشرية وهناك أيضاً طوابير السيارات عندما ينفد مخزون البنزين نتيجة الإضرابات المفاجئة لشركات نقل الوقود. عادةً ما تباغت هذه الشركات المواطنين بإعلانها عن الإضراب، بعد فشل المفاوضات مع السلطات، فيهرع أصحاب السيارات إلى محطات البنزين التي لا يزال لديها مخزون كافٍ من الوقود. نتيجة عدم كفاية الإنتاج أو تأخّر الواردات، اختفى العديد من المنتجات عن الرفوف. أصبح حديث الناس يدور حول فقدان السكر أو القهوة أو المياه المعدنية أو زيت الطبخ أو الحليب أو غيرها. خلال الأيام الأخيرة التحقت المشروبات الغازية بقائمة المواد المفقودة، بعد أن توقف استيراد المواد الأولية من الخارج وأغلقت بعض مصانع الإنتاج و التعليب أبوابها. كما شهدت الفترة الأخيرة نقصاً في إنتاج وتوزيع الخبز المدعوم من الدولة، وسط خلاف بين أصحاب المخابز والسلطات حول أسعار منتجات الحبوب المدعومة من الحكومة، ونقص في كميات الدقيق المتوفّرة في السوق. لفقدان الخبز أو مجرد اضطراب توزيعه، ولو لفترة وجيزة، وقع نفسي ورمزي شديد على مختلف مكونات المجتمع التونسي. وظاهرة فقدان المواد الغذائية وغيرها من السوق متفرّعة في الواقع بشكل أو بآخر عن الأزمة الاقتصادية العميقة التي تشهدها البلاد منذ سنوات. وقد أعيا علاجها السلطات والخبراء والشركاء الأجانب على حدّ سواء. نتيجة هذه الظاهرة توالت تحذيرات الخبراء المحليين والأجانب وتنبؤاتهم بالاضطرابات الاجتماعية المحتملة.لكن الاضطرابات لم تحدث، بعد أن تضافرت العوامل التي دفعت الوضع نحو الاستقرار، ضمن اقتناع ضمني من الجميع بأنّ ظروف البلاد لا تحتمل المزيد من الهزّات والمطالبات غير الواقعية. حتى النقابات العمالية كبحت جماح منظّريها واجتنبت تصعيد لهجتها تجاه السلطات. ولكن الجانب اللافت أكثر من غيره في هذه الأزمة، هو محافظة المجتمع على توازنه وهدوئه في خضم فقدان بعض الضروريات، رغم أنّ الجميع منشغل بتزايد العنف في جوانب أخرى من حياة الناس. يتجلّى الهدوء من خلال وقوف الناس بلا توتر في صفوف طويلة منذ الصباح الباكر لاقتناء أرغفة الخبز وأية مواد أخرى قد تنضب من السوق. يستغل البعض من المواطنين فترة انتظار دورهم لتبادل أطراف الحديث مع الأشخاص الواقفين معهم في الطابور نفسه. البعض الآخر يقضي الوقت في مطالعة آخر المستجدات على “فايسبوك” بعد أن انتهى أو يكاد عهد الصحف التي كانت في وقت ما الوسيلة الأولى لتقصير الوقت. من الأكيد أنّ فقدان المواد الغذائية لم يدفع الناس للتدافع والفوضى. أظهر المواطنون قدرة على التأقلم مع الندرة، رغم أنّ علاقة التونسيين بالطوابير لم تكن أبداً على أفضل حال. التونسي يبحث عادةً عن الحلول التي تعفيه من الطوابير، حتى وإن كانت حلولاً أنانية ولا تحترم الأولويات وتتسبّب في الخصام والعراك. كانت تلك هي السلوكيات السائدة في زمن الوفرة النسبية. ولكن تلك السلوكيات أصبحت اليوم ربما غير متلائمة مع الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد. أصبح هناك وعي بأنّ مدة اضطراب التزود ببعض المواد الغذائية أو غيرها قد تطول. ويعمّ إحساس في أنّ اللهفة لن تفيد وأنّ مشاعر الخوف والفزع لن تنفع. هناك أيضاً قناعة صامتة لدى التونسيين بأنّه من غير المحتمل أن يواجهوا مجاعة. لدى الجميع ثقة أنّه رغم الصعوبات في التزود التي قد تواجه السلطات والفاعلين الاقتصاديين، فإنّه ليس هناك وضع يهدّد المصالح الحيوية للمستهلك. نفسياً واجتماعياً استسلم معظم الناس أمام مظاهر الأزمة المستمرة. استنفد المحتجون طرق الاحتجاج كلها خلال السنوات الماضية وأصبحوا لا يرون مخرجاً جماعياً لهم من المأزق الحالي. سيطرت الحلول الفردية وأهمها اليوم الانتظار الهادئ في الطابور المؤدي إلى المخبز وغيره من المحلات. استنبط التونسي قواعد سلوك جديدة في تعايشه مع الأزمة. يفاجئك المتبضّعون باصطفافهم بشكل عفوي وسريع في طابور مستقيم لم يكن موجوداً قبل دقائق، عندما تظهر فجأة كميات الدقيق أو الزيت على الرفوف بعد اختفائها من السوق لفترة، أو حين يعلن أصحاب أحد المتاجر الكبرى أنّ المواد المفقودة قد أصبحت متوفرة حينها لكن بكميات محدودة. لا يخلو مشهد الاصطفاف العفوي من حالات يلتحق فيها بعض الأشخاص بصف المنتظرين من دون علم بالسبب الذي جعل الناس تصطف. الطابور وحده سبب كافٍ للاصطفاف وراء الواقفين. فمن يدري بماذا سيفوز الواقفون في ذلك الطابور؟ هناك طبعاً من يحاول اتباع طرق ملتوية للحصول قبل غيره على البضائع المفقودة. وهناك أيضاً من التجار من يرى في شح بعض المواد فرصةً للمضاربة وتحقيق أرباح اضافية. لكن أغلبية الناس ما زالت تفضّل عدم الانسياق وراء الجشع والأنانية. موقفهم المتمدن خفّف من آلام الأزمة ومعاناتها. لا أحد يعرف إن كان صبر التونسيين وهدوئهم وتأقلمهم مع مناخ الندرة بمثابة الخصال الدائمة، أم هل هي هدنة وقتية مع الفوضى تفرضها الظروف إلى حين؟. لكن ليس في مصلحة أحد امتحان هذا الصبر بإطالة عمر الأزمة أو التهاون في معالجتها.وليس بمقدور أحد أن يضمن استقرار المجتمع إن بقي اقتصاد البلاد من دون حلول دائمة، هي وحدها الكفيلة بأن تُنهي حالة الهشاشة وتُعيد الأمل في النفوس. إضافة إلى ذلك، فإنّ الطوابير وإن كانت تعكس صلابة وصمود المجتمع وقدرته على التأقلم أمام المصاعب، فهي ليست عنوان فخر لتونس. كثيرٌ من التونسيين يخجلون من مشهد الطوابير في الشوارع. يرونها ظاهرة لا تشرّف البلاد بعد 67 عاماً من استقلالها. يتعلّق الأمر بظاهرة لن تختفي قريباً. واختفاؤها لن يتحقق في الواقع إلاّ حين تتقدّم البلاد أشواطاً حاسمة نحو تحصين اقتصادها وتعزيز أمنها الغذائي. وذلك سوف يتطلّب إجراءات وتضحيات، تتجاوز مجرد الوقوف في صبر وجلد في الطوابير الطويلة.