الأرجح أن كثيرين سيصعب عليهم عدم تذكر طوفان نوح حينما يقرأون ذلك الخبر الذي نشره موقع “سايتك دايلي” scitechdaily العلمي عن سيل هائل حمل مياهاً إلى البحر المتوسط حينما غطت مساحاته سهولاً من الملح الجاف!
وفي الشرق الأوسط، ربما تزيد إثارة الخبر مع ما يحمله من أسماء مناطق لها رنين وأصداء في ذاكرة أبناء هذه المنطقة، خصوصاً خليج مدينة قادس الشهيرة في إسبانيا التي يرجح أنها تأسست على يد فينيقيين جاؤوا من مدينة صور قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة. ويشكل خليج قادس جزءاً من منطقة الأندلس في أسبانيا، فيما المنطقة البحرية المعنية ببداية ذلك التدفق الطوفاني هي ذلك الجزء من الأبيض المتوسط بين مضيق جبل طارق وجنوب الأندلس وشمال المغرب. هل تكاثرت الأسماء المألوفة عربياً بأكثر مما “يجب”؟ إذاً، فلنعد إلى الخبر الذي حرّك كل تلك الكلمات.
ووفق “سايتك دايلي”، حقق بحاثة من “جامعة ساوثهامبتون” البريطانية اكتشافاً وُصِف بأنه اختراق علمي، يؤكد أنّ تدفقات فيضانية ضخمة [سمّوها “طوفان زانكلين الهائل” Zanclean Megaflood] دخلت إلى البحر المتوسط ووضعت نقطة النهاية لحقبة كارثية عانى فيها من الجفاف وتمددت على معظم مساحاته سهوب من الملح [سمّيت تلك الفترة “أزمة التملّح الميسيني” Messinian Salinity Crisis]، وبالتالي، أعاد “طوفان زانكلين الهائل” ملء ذلك البحر بالمياه. وقد امتدت فترة الجفاف المالح طيلة 650 ألف سنة، وحدثت قبل ما يتراوح بين 5.33 و5.96 مليون سنة.
بضعة أعوام تساوي آلاف السنين
ولعل الشيء العميق في هذا الاكتشاف يتمثل في أن عملية إعادة امتلاء البحر المتوسط بالماء حدثت في سيول جارفة استمرت فترة تتراوح بين عامين وستة عشر عاماً، على عكس قناعة علمية راسخة بأن تلك العملية المائية جرت بالتدريج واستغرقت قرابة عشرة آلاف سنة.
وتذكيراً، ففي العام 2009 ابتدأ العلماء في تحدي تلك القناعة العلمية. وآنذاك، اكتشفت قناة تمتد من خليج مدينة قادس الفينيقية وتعبر قبالة الساحل الأندلسي في جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية [تسمية تستعمل كثيراً في الإشارة إلى أسبانيا التاريخية القديمة، لكنها تشمل البرتغال]، ثم تمر عبر مضيق جبل طارق، لتصل إلى بحر آلبوران Alboran Sea الصغير نسبياً الذي يشبه مستطيلاً غير منتظم يبدأ من مضيق جبل طارق ويلامس سواحل إيطاليا عند جزيرة صقيلة، فيما تشكل شبه الجزيرة الأيبيرية حدوده الشمالية وتقابلها جنوباً سواحل المغرب وقسم من الجزائر. ومن تلك المنطقة، امتد “طوفان زانكلين الهائل” إلى بقية منطقة البحر الأبيض المتوسط.
ولأخذ فكرة عن الضخامة الهائلة لتلك الفيوض المائية، يشير العلماء إلى أن مستوياتها تراوحت بين 68 مليوناً ومئة مليون متر مكعب من المياه في الثانية!
زلزال ينهي عزلة المتوسط وجفافه
وفي حقبة “أزمة التملّح الميسيني”، عُزل المتوسط عن الأطلسي، وتبخرت معظم مياهه على مدار بضع مئات آلاف من السنين.
ثم انتهى ذلك كله عبر تحرك صفائح تكتونية أطلق زلزالاً تحت سطح مياه الأطلسي المحاذية لأوروبا، فشق ممراً صخرياً امتد من خليج قادس إلى المتوسط، وباعد بين شطري مضيق جبل طارق. وتدفقت سيول مياه المحيط الأطلسي عبر ذلك الممر على هيئة “طوفان زانكلين الهائل”. وامتلأ البحر الأبيض المتوسط بالمياه، وتغيّر التاريخ الجيولوجي والبيئي لتلك المنطقة لتتخذ هيئتها التي نراها حاضراً.
وقد نشرت الدراسة المشار إليها آنفاً في مجلة “مراسلات الأرض والبيئة” المتخصصة، واعتمدت بكثافة على تقنيات المحاكاة الافتراضية على الكمبيوتر، لصوغ الرسوم الغرافيكية الرقمية عن المشهديات المائية والجيولوجية المذهلة التي رافقت ذلك الطوفان.