جميل مطر
كشاهد على ميلاد دورة جديدة من دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة أستطيع بكثير من الثقة أن أتنبأ بأنها سوف تستحق أن يطلق عليها المرحلة الترامبوية في عمر الجمعية. عشت مشهداً بالصوت والصورة ظهر فيه رئيس الدولة الأعظم في العالم يلقي خطاب بلاده من فوق منبر الجمعية العامة مشاركاً في افتتاح أعمال دورة جديدة من دوراتها. كان خطاباً غير عادي ذكرني بعض عباراته وكثير من حركات أصابع الرئيس وفمه وعينيه وذراعيه بيوم تنصيبه الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية. منذ ذلك اليوم، أقصد يوم التنصيب، ونحن نتحدث ونكتب عن عهد جديد في أميركا، ولكن دائماً، نصرّ على تذكير أنفسنا بعمر هذا العهد الجديد. نقول نحن في الشهر الثالث أو التاسع أو نحن في اليوم الرقم 90 أو 270 من عهد الرئيس ترامب. نحسب العهد بالأيام وندقق في التواريخ ونحسب عدد القرارات والأوامر الرئاسية، ونتابع أسماء وألقاب المتغيبين عن الحضور من مستشاريه ومساعديه إلى مقار أعمالهم.
كنت شاهداً في ذلك اليوم، يوم السابع من كانون الثاني (يناير) يوم التنصيب، وشاهداً يوم 19 أيلول (سبتمبر) يوم افتتاح دورة جديدة للجمعية العامة. في ذلك اليوم، وبينما جلست منتبهاً أستمع إلى السيد ترامب يخطب مسّتني رجفة حين أتى على ذكر دولة يكرهها إلى حد تهديدها، حكومة وشعباً، بالتدمير الشامل، مسّتني رجفة أخرى وأنا أسمعه يتحدث عن اتفاقية وقعتها أميركا مع دولة أخرى، لم تكن بلاده الطرف الدولي الوحيد الذي فاوض عليها ووقع بل فاوضت إلى جانبه دول أخرى محترمة المكانة والنفوذ، بينها روسيا والصين، ووقعت قبل أن تصدق عليها وتحتفي بها المنظمة الدولية وفروعها المتخصصة، ومع ذلك سمعته يهدد بتمزيقها على الفور. مسّتني رجفة ثالثة عندما اختار فنزويلا فريسة أخرى لهجمة من هجمات كراهيته التي صار الناس يألفونها، ولم أفلح في أن أتعود مثلهم عليها.
لماذا الرجفة ثم الرجفة ثم رجفة ثالثة. أما الأولى فكانت لأنني سمعت رئيس دولة عظمى يهدد دولة عضواً في الأمم المتحدة. يهددها بالدمار الشامل ويسخر من رئيسها فيلقبه بالرجل الصاروخ ويطلق على حكومتها صفة «عصابة مجرمين». أكرر قناعتي أن هذه الدولة العظمى التي كانت تفخر بأنها قادت عملية التأسيس لهذه المنظمة الدولية لتكون رابطة من الدول أكفأ وأقدر على حماية أعضائها من غضب وجشع الأكبر والأقوى، سلك رئيسها سلوك الأشرار وأساء إلى صدقيتها ومكانتها بين الأمم حين ترك الكراهية تسيطر عليه. لم يستشر حلفاءه أو يأخذ برأيهم، وأولهم رئيس كوريا الجنوبية. هذا الرئيس أول المتضررين من تصعيد الصراع. رفَضَ أي تصرف أميركي يشعل حرباً نووية بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة في شبه الجزيرة. الصين لم ولن تقبل هذا اللعب بالنار على حدودها. وفي كل الأحوال هي غير راضية أساساً عن الوجود الأميركي في أي من الإقليمين: إقليم شرق آسيا وإقليم جنوب شرقي آسيا. جدير بالرئيس ترامب وغيره من اليمينيين المتشددين أن يدركوا أن الصين شبت عن الطوق ولن تقبل بالتعامل معها من منطلق هيمنة أو تعال.
استمعت إلى الرئيس الأميركي وعيناي تبحثان عن كبار مستشاريه في القاعة وخارجها لقراءة انطباعاتهم. رأيت أحدهم، جون كيللي، يخفي وجهه بيديه بينما رئيسه يسخر من الرجل الصاروخ. رأيت آخرين يبذلون جهداً حتى لا تكشف الكاميرات انفعالاتهم وحركة أجسادهم ونظراتهم. رحت بعدها أقرأ وأسمع تعليقات ديبلوماسيين من شتى الأنحاء وأتابع آراء كبار المعلقين الأوروبيين والأميركيين. عندئذ توقفت الرجفة وحل الفزع.
مسّتني الرجفة الثانية حين عاد الرئيس الأميركي يكرّر حديثه المألوف عن الاتفاقية النووية التي عقدها الرئيس باراك أوباما وغيره من حكام الدول الكبرى مع إيران. تذكرت مأساة العراق. تذكرت يوم جلست شاهداً على رئيس أميركي أسبق ثم على وزير خارجيته يحلفان بأغلظ الإيمان، وكلاهما وصل إلى منصبه تحمله موجة من التدين المعلن، وأحدهما سبق أن أقسم يمين الولاء حتى «الشهادة» لوطنه كأي رجل عسكري مهيب وصل إلى أعلى المناصب في الجيش كما في الدولة. كلاهما ومن ورائهما كتيبة كاملة من المحافظين الجدد وأنصار إسرائيل في وزارة الدفاع الأميركية وبعض مراكز البحوث استعدت بوثائق وبحوث وشهادات استخبارات تزعم كذباً أن العـــراق لديه، في ذلك الحين، برنامج كامل وناضج لإنتاج أسلحــة نووية ومزود بصواريخ يمكن أن تصل إلى إسرائيل وتهدد القواعد الأميركية في الشرق الأوسط. انتهى الأمر بتكليف رئيس غير محنك ومهووس دينياً تهديد العراق بحرب «تدمره تدميراً شاملاً وتعيده إلى العصر الحجري». وبالفعل شن الرئيس بوش الصغير حربه السيئة السمعة ضد العراق ودمره تدميراً. انظر، ومثلي ينظر ملايين العرب، إلى العراق اليوم، يتحسرون عليه وعلى أمة بأسرها تدفع اليوم من عقيدتها الدينية وكرامتها وسيرتها بين الأمم ثمن سكوتها على ترتيبات كانت تعد في وضح النهار من جانب مجموعة المحافظين الجدد وجماعات الضغط الصهيوني وأنصار إسرائيل في الكونغرس. كنا نعرف، وبعد الخراب عرفنا أكثر. قرأنا تفاصيل الكذب والتقارير المزيفة واعترافات السيد توني بلير رئيس وزراء بريطانيا. نكاد اليوم نقرأ مرة ثانية مفردات القاموس نفسه الذي لجأ إليه الذين رتبوا لغزو العراق ودمروه تدميراً وراح أكثرنا بين الهالكين. هناك سياسيون ينسون أو يتجاهلون حقيقة أن إيران والعراق هدفان مختلفان كل الاختلاف، وأن حرباً ضد إيران قد لا تكون محدودة أو قصيرة أو معزولة أو عابرة. لا يجوز أن ننسى أن إسرائيل تريدها حرباً مختلفة وبقوة تدميرية أوسع وآثار عقائدية أعمق وأشمل في الإقليم بأسره، من أقصى مغربه إلى مشرقه وشرقه، ودوافعها كثيرة. ومع ذلك لا أستبعد الرأي القائل إنه إذا فرض على العسكريين الأميركيين الاختيار بين حربين تشن أحداهما في الشتاء المقبل فسوف يقع اختيارهم في الغالب واختيار الصناعة العسكرية على حرب ضد إيران وليس على حرب ضد كوريا الشمالية.
أما الرجفة الثالثة فكانت حين كشّر الرئيس الأميركي عن غضب هائل وهو يوجه تهديداً إلى السنيور نيكولاس مادورو رئيس فنزويلا اعتبره معلقون أميركيون تهديداً بالقتل. هذا النوع من الخطابات السياسية تصلح لحملة انتخابية أو رسالة إلى مؤيدين ناقصي علم ووعي، لكنها لا تصلح في قاعة تضم ممثلين عن أكثر من 190 دولة تزعم لنفسها قدراً عالياً من السيادة وتعتقد أن عضويتها في هذا المحفل الدولي تحميها من العدوان والغزو والانتقاص من السيادة. الغريب في الأمر أن الرئيس ترامب نطق خلال خطابه بكلمة السيادة 21 مرة، الأمر الذي كان موضوع سخرية من جانب عدد كبير من مندوبي دول أفريقيا وأميركا اللاتينية الذين أفزعهم التهديد الصارخ والصريح لرئيس دولة عضو في هذه الجمعية العامة.
لم ينجح مستشارو الرئيس في أن يخرجوا إلى العالم بخطاب يمكن أن نعتبره وثيقة جامعة للسياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس ترامب. أسّر لي أحد المسؤولين العرب المتعاطفين مع الرئيس ترامب بأنهم في بلده كانوا في انتظار خطاب يستحق عنوان «مبدأ ترامب» أسوة برؤساء سابقين مثل نيكسون وأيزنهاور. قيل لهم أثناء إعداد الخطاب أنه سوف يمثل نقطة تحول في التاريخ الأميركي وليس فقط في السياسة الخارجية الأميركية. أخشى أن يصدق هذا التوقع في حال نشبت حرب من الحربين اللتين هدد بشنهما السيد ترامب.
من ناحية أخرى لم يتضمن الخطاب، وقد صاغه بالمناسبة كما فهمنا الرجل الذي صاغ كثيراً من خطابات ترامب الشعبوية والعنصرية والمتطرفة وهو أيضاً، كما تردد أخيراً، أحد تلاميذ السيد دوغلاس فيث أحد قادة المحافظين الجدد، في وقت هيمنت فيه جماعة بول فولفويتس ودونالد رامسفيلد ورفاق الشر الذين خططوا لحرب العراق، أقول لم يتضمن الخطاب عناصر يمكن أن تشكل بوصلة تؤشر إلى اتجاهات السياسة في عهد الرئيس ترامب. لا يزال الرئيس يمدح كل مسؤول أجنبي كبير وما أن يدير ظهره حتى يكيل له السباب والإهانات. ولاتزال وزارة الخارجية الأميركية تعمل بحد أدنى من طاقتها البشرية. ولايزال البيت الأبيض لم يستقر على طاقم عمل. ولايزال اليمينيون والعنصريون البيض يهيمنون. ولاتزال مؤسسات أميركية، كالصحافة والتعليم ومراكز البحث ومنظومة الأخلاق، ومؤسسات ديموقراطية، كالانتخابات والنظام الحزبي، تتهاوى سمعة وكفاءة الواحدة بعد الأخرى.
أكدت تصرفات الرئيس الأميركي وخطابه إلى الجمعية العامة وخطب الرؤساء والمندوبين الآخرين أن القيادة الدولية لم تتقدم شبراً واحداً نحو حل أزمة المرحلة الانتقالية الراهنة، بل لعلها تزداد تعقيداً. كانت ردود رؤساء الوفود، خصوصاً رد الرئيس الفرنسي والوزير الروسي على خطاب الرئيس ترامب في ما يتعلق بمشكلة الاتفاقية الإيرانية، كاشفة عن مساحة الفجوة التي تفصل الولايات المتحدة عن حلفائها الأوروبيين.
الأجواء الحالية أجواء أزمة على أكثر من مستوى، مستوى القيادة الدولية، والمستوى الإقليمي في الشرق الأوسط، ومستوى إقليمي آخر في شرق آسيا. عالم ترامب عالم مروع، والبشرية في حاجة ماسة وعاجلة إلى قيادة رشيدة.