مقالات

عامل توصيل سعودي بدراجة نارية

وائل مهدي

وائل مهديصحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة “بلومبرغ”، حيث عمل على تغطية اجتماعات “أوبك” وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب “أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟”.

أكاد أجزم بأنه لا يمر عليَّ أسبوع من دون أن أطلب على الأقل وجبة طعام من خلال أحد تطبيقات توصيل الطلبات. وخلال طلباتي الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، لا أتذكر أنني قابلت عامل توصيل واحداً سعودياً.

وكلما أتذكر عمال التوصيل، دائماً ما يعلق ببالي صورة أحدهم الذي كان طويل القامة من جنسية عربية في الخمسينات من العمر، ويبدو عليه أنه كان يعمل في وظيفة مكتبية قبل أن يمتهن توصيل الطلبات.

صورة هذا الشخص لا تزال عالقة في بالي لأني تساءلت: ما الذي يجعل رجلاً في هذا العمر يعمل في وظيفة تتطلب الكثير من الحركة، وهو تبدو عليه ملامح العمل المكتبي في مظهره وملفظه؟ الإجابة الوحيدة التي توصلت لها هي فقدانه تلك الوظيفة المكتبية، أو أن توصيل الطلبات هو بمثابة دخل إضافي لهذا الشخص لمواجهة صعوبات الحياة.

لقد استفاد هذا الشخص، واستفدتُ أنا، واستفادت شركة التوصيل، من رغبته في العمل في هذا المجال. هذه الاستفادة المشتركة لنا كلنا لن تدوم طويلاً بعد قرار هيئة النقل العام إلزام شركات توصيل الطلبات بتوظيف السعوديين وإلزام غير السعوديين بالعمل من خلال شركات النقل الخفيف.

هذا القرار جاء مع مجموعة أخرى من 6 قرارات أصدرتها الهيئة بهدف رفع الجودة في قطاع توصيل الطلبات، والتي من بينها إلزام الشركات بفرض زيٍّ موحَّد للعاملين والسماح بالإعلانات على سيارات النقل الخفيف.

حقيقةً لم أفهم تأثير وعلاقة الزي الموحد والإعلانات بمستوى جودة التوصيل، ولكن لعلّ القرارات الأخرى التي تشمل ضوابط استخدام الدراجات النارية تكون مرتبطة أكثر بذلك.

وإذا كان الهدف خلق فرص عمل للسعوديين في هذا القطاع كما تقول الهيئة، فهنا علينا التوقف قليلاً وفهم الأمور بصورة أعمق.

أولاً، قطاع توصيل الطلبات ليس قطاعاً جاذباً للسعوديين لسببين: الأول ماليّ، وهو أن رسوم التوصيل بسيطة. والآخر لوجيستي لأن توصيل الطلبات يتطلب القيادة في الشوارع المزدحمة التي لا تطاق، إضافةً إلى ضرورة مغادرة السائق المركبة لإيصال الطلب لصاحبه.

وبحسبة بسيطة جداً، فإن مكسب السائق من توصيل الطلب لا يتجاوز 5 إلى 7 ريالات، مما يتطلب من السائق العمل لنصف يوم (12 ساعة) للحصول على 100 ريال وتدخل فيها تكلفة الوقود.

ولو افترضنا أنه سيعمل 12 ساعة يومياً لشهر كامل بلا توقف، فلن يكون دخله أكثر من 3000 ريال.

بافتراض أن السائق تمكَّن من توفير ألف ريال شهرياً وإنفاق باقي المبلغ على مصاريفه ومصاريف الوقود، فإن هذا الرقم معقول لغير سعودي يحتاج لتحويل ألف ريال لبلده لإعالة أسرة، ولكنه لا يكفي مواطناً سعودياً لإعالة أسرته.

اقتصاديات توصيل الطلبات يجب أن يفهمها الجميع، فشركات توصيل الطلبات بعضها يحقق الربح من أمرين: الأول هو رفع قيمة الوجبة عند توصيلها، والآخر مشاركة السائق رسوم التوصيل. بعض الشركات لا ترفع قيمة الوجبة ولكنها تكتفي برسوم التوصيل.

ويعتمد كثير من هذه الشركات لخفض القيمة على سائقين بنظام العمل الحر، يعملون بدوام كلّي أو جزئي. هؤلاء غالبيتهم من غير السعوديين. والآن مع قرار الهيئة إما أن يلتحقوا بشركة نقل خفيف وإما أن يجلسوا في بيوتهم.

لنفترض أنني لا أهتم بمصير هؤلاء ولا إنسانية لديّ، ولكني أهتم بنفسي فقط ومصلحتي، فإن تكلفة توصيل الطلبات لا بد أن ترتفع عليّ لأسباب كثيرة، أبسطها هو تحويل سائق يعمل بسيارته ويتحمل كل المصاريف إلى موظف يعمل بسيارة الشركة مع تأمين طبي عليه وتأمين على السيارة ومرتب شهري.

وبالتالي الخيار الأفضل هو الاعتماد على السعوديين لدخول قطاع توصيل الطلبات، والعمل فيه في الشمس المحرقة وزحمة المدن الرئيسية التي لا تطاق لساعات طويلة لأيام كثيرة بأجر مالي زهيد.

وسأكون بلا رحمة أكثر وأقول إنني لن أهتم بمصير السائقين، ولن أهتم بتكلفة التوصيل وليدفع الأشخاص المرفهون في البيوت تكلفة الرفاهية الزائدة التي يريدون الحصول عليها أو عليهم النزول في زحمة الرياض القاتلة لشراء شاورما دجاج والانتظار لنصف ساعة للحصول على الطلب والعودة للبيت خلال 40 دقيقة. مما يعني أن ساندويتش الشاورما، تكلفته الزمنية 110 دقائق، أما الاقتصادية فهي أكثر بكثير من سعره مع تكلفة الوقود والفرصة البديلة والوقت المهدر.

وسأنزع الرحمة والفكر الاقتصادي وأقول فليذهب الجميع إلى الفناء مع شركات التوصيل التي ستتكبد خسائر لا محالة، خصوصاً أن إحدى هذه الشركات مساهمة وهي شركة «جاهز»، وسنرى كلنا قوائمها المالية ومكاسبها من قطاع توصيل الطلبات.

للعلم، شركة «جاهز» تحاول تشجيع السعوديين على العمل في القطاع من خلال توفير سيارات لهم إذا حققوا أرقام توصيل عالية.

عموماً، الهيئة بعد ورش عمل طويلة مع الشركات خرجت بحلٍّ، وهو جعل تطبيق هذا القرار تدريجياً لفهم تأثيره في الشركات.

هناك حلول كثيرة ولكنها ليست عملية؛ الأول هو التحول الكامل إلى الدراجات النارية مثلما تفعل شركات التوصيل في دبي، أو استخدام وسائل توصيل أكثر إبداعاً وجنوناً مثل الاعتماد على طائرات الدرونز، وهذا يعني بشراً أقل وتفادياً لزحام المدن، ولكنه أمر غير عمليّ؛ فهناك 200 مليون عملية توصيل في العام الماضي فقط غالبيتها في الرياض، حسب تصريح المتحدث الرسمي لهيئة النقل صالح الزويد، لقناة «الشرق بلومبرغ».

ولنتخيلْ شكل السماء بعد 5 سنوات عندما يتضاعف أعداد سكان الرياض، ولنتخيل جيش الدراجات النارية على الأرض عندما نصل إلى 500 مليون عملية توصيل، في شوارع غير مهيأة للسيارات، ناهيكم بالدراجات النارية.

في الأخير، قرارات الجهات الحكومية يتخذها أفراد يفكرون في مصلحتهم أياً كانت، وبالتالي خسارة الشركات أو رفع تكاليف الخدمات لا يهمهم وإن ادّعوا ذلك، ولنا في كثير من القرارات أسوة حسنة.

ولعل جانباً واحداً من القرارات الستة يبدو مقنعاً، وهو استخدام بصمة الوجه للسائقين، ولكنه ذو أثر أمنيّ أكثر منه اقتصادياً.

في النهاية، لا أستطيع تخيل امتلاء شوارع الرياض بدراجات نارية بشباب سعوديين يعملون في توصيل الطلبات لتعويض غير السعوديين الذين يقبلون بكل ظروف العمل الشاقة والأجور المتدنية. والدليل على صحة كلامي هو قطاع الإنشاءات، إذ لا نرى عمال بناء سعوديين.

وبالتالي رسالتي هي كالتالي: أولاً، ليست كل القطاعات والأعمال قابلة للسعودة، وسعودتها إثمها أكبر من نفعها، وستؤدي إلى تضخم غير محمود. ثانياً، لنتوقف قليلاً عن لغة التوطين والسعودة، ولنراعِ مصالح الشركات والتكلفة على المستهلكين. وثالثاً، عندما يعيش الناس، سعوديين وغير سعوديين، سواءً في نظام اقتصادي لا يسمح لهم بتوفير دخل إضافي فهناك مشكلة في سوق العمل. وأخيراً، ما الرسالة التي نريد أن نقولها للعالم؟! نحن لا نرحب بأحد بيننا؟! الاقتصاد الحقيقي هو الذي يفتح أبوابه للجميع ولهذا ستظل أميركا معقل الشركات وموطن الكفاءات، لأن المكسيكي غير المتعلم يجد عملاً كما يجد فيه الهندي خبير البرمجة وظيفة مرموقة.

من ناحية دينية، لله خزائن السماوات والأرض، وعندما تفتح القرى والمدن أبوابها للغير، يفتح الله عليها الرزق الوفير. وكلما كبر الاقتصاد، زادت الفرص للجميع. وبدل أن نمدّ اللحاف على قدر الرجل، فلنفكرْ في لحاف أكبر يكفي أرجلنا جميعاً.