الانسحاب الأميركي يترك روسيا وإيران وتركيا في الفخّ
هل عنى دونالد ترامب ما قاله عن الانسحاب «قريباً جداً» من سورية؟… على رغم كل شيء، هذا رئيس الولايات المتحدة، ومهما صعب توقّع قراراته فإنه لا يمكن أن يعبث بملف استراتيجي. كل ما قاله سابقاً كمرشح ثم كرئيس منتخب، حتى ما يُصدَّق منه وما لا يُصدَّق، مارس إصراراً شديداً على تحقيقه وواجه الانتقادات والعراقيل القضائية، كما في التمييز ضد بلدان محدّدة وتشديد شروط السفر والهجرة لمواطنيها، أو في دفاعه المستميت عن خفايا علاقته بروسيا ورئيسها. الغريب في مسألة سورية أن نية الانسحاب جاءت من دون مقدّمات واضحة اعتادت المصادر الأميركية كشفها أولاً بأول. لكن عندما تقول الخارجية الأميركية أن لا علم لديها بما أعلنه الرئيس عشية تسلّم مايك بومبيو شؤون وزارته رسمياً، وعندما تكثر التسريبات والإشارات الى استياءٍ هنا وهناك بما في ذلك في البنتاغون، وعن استهجانٍ وحتى غضب في عدد من أوساط الجمهوريين، وعن انزعاج في إسرائيل… كل ذلك يشير الى أن الفكرة لم تُناقَش ولم تنضج، والفارق الوحيد أن ترامب لم يتعامل معها بتغريداته المعتادة بل تولّى شخصياً كشفها.
لذلك كثُرت التفسيرات، من قبيل أن ترامب رمى كرته الملتهبة فجأة مستوحياً من لقائه مع عمال صناعيين في أوهايو الـ «سبعة تريليونات دولار» التي أنفقتها أميركا في الشرق الاوسط، ومتذكراً أيضاً أنه تعهّد خلال حملته الانتخابية عدم الإنفاق العسكري في الخارج وإجبار الدول كافةً على الدفع مقابل دفاع أميركا عنها. لكنه كان استثنى محاربة الارهاب وإنهاء تنظيم «داعش»، ويعتبر الآن أن هذه المهمة انتهت أو هي في صدد الانتهاء، لذا حان وقت الانسحاب. وإذا استُرجع قوله قبل انتخابه «سنحارب الإرهاب وليس سورية وروسيا»، يبدو تفكيره كأنه منظّم لكنه وجّه ضربتين مهمّتَين للنظام السوري وللمرتزقة المتعاملين مع روسيا. ولا شك في أن الذين سارعوا لأسباب متفاوتة الى التقليل من حديثه عن الانسحاب ما لبثوا أن لمسوا جدّيته حين جمّد المئتي مليون دولار التي كانت مخصّصة للإعمار في شمال شرقي سورية.
كما فعل ترامب بإرث باراك اوباما في الرئاسة، يريد على ما يبدو محو أي أثر لريكس تيلرسون في الخارجية. كان انتقد بمرارة نهج «الانسحاب» الأوبامي من العراق، مع علمه أن سلفه أقدم على خطوة شعبية في الداخل حتى لو لم تكن صحيحة سياسياً أو استراتيجياً. لذلك، استفزّ إعلانه الانسحاب من سورية ناقديه الذين لم يتأخّروا في خلع لقب «اوباما 2» عليه، مع فارق أن الرئيس السابق استفاض في شرح أسباب رفضه التورّط في سورية مستشهداً دائماً بما حصل في العراق من دون أن يعترف بـ «خطأ الانسحاب»، أما دوافع ترامب وشروحه فتقتصر على حساب التكاليف، لكنه مهما فعل لن يستطيع تعويض التريليونات السبعة، ولا فرض معادلة الدفع مقابل البقاء تحت مظلّة النفوذ الأميركي.
كان اوباما يريد الانسحاب من الشرق الأوسط لنقل الاهتمام الاستراتيجي الأميركي الى الصين وآسيا، وكان دائم الاستعداد للعمل مع روسيا ولم يخض أي منافسة معها في سورية وبالتالي لم يهتم بتحديات فلاديمير بوتين وابتزازاته. إذاً، يلتقي ترامب مع سلفه على دوافع الانسحاب، وكان متوقّعاً أن يذهب أبعد في التقارب مع بوتين لولا سخونة قضيتَي التدخّل الروسي في الانتخابات واتصالات قريبين من الرئيس مع شخصيات روسية. في المقابل، فُسّرت مهادنة اوباما إيران بأنه يرمي على المدى البعيد الى اجتذابها والتعاون معها في إطار الاستراتيجية الآسيوية للولايات المتحدة، ولأجل ذلك تغاضى عن توسيعها نفوذها في محيطها العربي، على رغم تلمّسه أن هدفه كان وهميّاً، كذلك اتضاح البعد التخريبي لهذا النفوذ الإيراني. على العكس، لم يأخذ ترامب بالمهادنة ولا بأسبابها بل تبنّى استراتيجية مواجهة مع إيران ويستعدّ للتخلّي عن الاتفاق النووي ولا يمانع ضربة إسرائيلية للإيرانيين في سورية بل إنه عيّن جون بولتون مستشاراً للأمن القومي وهو المعروف بتأييده تغيير النظام في إيران.
بين هذين التوجّهين ظلّت سورية وشعبها الخاسر الأول والوحيد. ولا يُعتبَر نظام بشار الأسد مستفيداً إلا بصفته طرفاً ضد سورية وشعبها، مثله مثل روسيا وإيران وكذلك تركيا التي انضمّت أخيراً الى معسكر الكاسبين. وفي عملية خلط الأوراق المفاجئة بدا ترامب غير معنيٍّ بعملية «تقاسم النفوذ» وخرائطها، بل مستهدفاً حلفاء أميركا قبل خصومها، حتى أن إسرائيل استشعرت خسارة لأنها تأخّرت بالضربة التي تلوّح بها ضد الإيرانيين في سورية، ذاك أن تخطيطها لهذه الضربة سيختلف بوجود الأميركيين عنه في غيابهم. وسيكون عليها أن تتعايش مع روسيا وأهدافها التي ستغدو بعد الانسحاب الأميركي أقلّ تقبّلاً لحرب إقليمية تكون سورية مسرحاً لها. فالمرحلة الجديدة ستُدار بشروط جديدة، سواء بين روسيا وشريكيها التركي والإيراني في ضمانات آستانة، أو بينها وبين إسرائيل الطامحة أيضاً الى منطقة نفوذ معترف لها بها في سورية.
ليس واضحاً كيف ستدير أميركا انسحابها، وكم من الوقت سيستغرق، وما هي الأبعاد التي سيتخذها، وهل ستحرص على ترتيبات معينة «مع الآخرين الذين سيتولون أمر سورية» لضمان عدم تغيير الأوضاع في المناطق التي تولّت حمايتها، وهل ستكلّف أو تشجّع دولاً غربية مشاركة في «التحالف الدولي ضد الإرهاب»، كبريطانيا وفرنسا، على الحلول مكانها؟… أسئلة كثيرة ستبقى بلا إجابات لفترة طويلة مقبلة، خصوصاً بالنسبة الى النتائج التي سيعكسها الانسحاب على مجمل السياسات الأميركية في المنطقة، إذ إن طبيعة الصراع تجعل الطرف المنسحب عسكرياً فاقداً أدوات تأثيره وفاعليته سياسياً، فالتخلّي عن أي دور في سورية سيضطر واشنطن الى الاعتماد أكثر على أدوار عربية محدودة القدرة، وعلى الدور الإسرائيلي بكل سلبياته. ومع اعتراف واشنطن بالأمر الواقع الروسي في سورية لا يزال مبكراً تصوّر البنتاغون والـ «سي آي اي» منسّقَين مع الروس لتسليمهم المناطق التي يديرانها حالياً، وبالتالي فإن الانسحاب كثّف الغموض حول مستقبل الوضع في الجنوب الغربي وقاعدة التنف والقوات المناوئة للنظام فيهما، كذلك الوضع في الشمال الشرقي ومصير «قوات سورية الديموقراطية» بأكرادها وعربها.
لا بدّ أن موقف ترامب قوبل بارتياح ضمني كبير في موسكو التي كانت دعت اليه مرّات عدّة في لحظات المناكفة السياسية، لكن اتجاه الدولتين الى حال من «الوفاق» يبقى احتمالاً مؤجّلاً. أما وقد أصبح الانسحاب خياراً أميركياً فمن شأن روسيا أن ترى فيه تعزيزاً لدورها وأسلوبها الوحشي في إنهاء الحرب، بمقدار ما سيُطلق يدها في هندسة الحل السياسي وفقاً لرؤيتها المعادية تماماً للمعارضة السورية. غير أنه سيدفعها الى تغيير حساباتها وإعادة النظر في تقاسم النفوذ والضمانات مع شريكيها التركي والإيراني، وبالتالي فإنه سيضاعف تورّطها ولكن، كالعادة، من دون أن يزيد حسّها بالمسؤولية تجاه سورية وشعبها، مثلها مثل نظام الأسد وإيران.
لا شك في أن إيران ستتعامل مع الانسحاب الأميركي على أنه فرصة تاريخية، إذ إنها والنظام سيندفعان الى استكمال السيطرة شمالاً وجنوباً، بانيَين على ما حصل أخيراً في الغوطة الشرقية، وهو ما دعمته روسيا دائماً على رغم الضغوط الأميركية، ولن تبدّل موقفها بعد زوال تلك الضغوط. هناك من يقدّر بأن الانسحاب خطوة أميركية استباقية للصراعات المتوقّعة بين الأطراف الخارجية المتدخلة، وقبل أن تتحوّل سورية فخّاً للجميع، وبالأخص لروسيا التي سيكون عليها عاجلاً أو آجلاً أن تضبط الإيرانيين لتتمكّن أيضاً من ضبط الإسرائيليين، أو أن تترك المواجهة تتفجّر بينهم لترى ما الذي ستكسبه منها. وفي خلفية ذلك، لا بدّ من النظر الى العودة غير المستبعدة لتنظيم «داعش» الذي يستغلّ مخابئه لترتيب صفوفه وبدأ يخرج منها لاستعادة السيطرة ولو في نطاق ضيّق. بديهي أن من يعتمد على «داعش» كان مكّنه في السابق وقد يعاود تمكينه لتوظيفه لاحقاً.