ميرزا الخويلديكاتب و صحفي سعودي
منذ القدم كان المال وقوداً للإبداع. المالُ لا يخلقُ إبداعاً بالضرورة، ولكنه الطاقة التي تطلقه نحو الفضاء، كانت مجاديف المبدعين تتكسر على صخرة الفقر والفاقة، ولكن أولئك الذين قيّض لهم أثرياء يغدقون بسخاء على رعايتهم وتكريمهم وتوفير أسباب النجاح أمامهم، كانوا يصنعون التميّز والفارق! يقومُ الإبداع على ركني الموهبة والمال. ثمة من آمن بأن المال وسيلة للعطاء والجود، وهناك من اشتغل بكنزه وحيازته.
الشاعر ورجل الأعمال الكويتي عبد العزيز سعود البابطين، الذي رحل مؤخراً عن عالمنا هو ممن آمن بما آمن به سخي العرب حاتم الطائي، حين خاطب امرأته: «أماويّ إن المال غادٍ ورائح / ويبقى من المالِ الأحاديث والذكر»… وأي ذكر جميل خالد لهذا الرجل الذي كان يُعدُّ صرحاً للأدب والشعر، وحاضناً للإبداع الشعري العربي، ورائداً في مسيرة الحوار بين الثقافات والحضارات، وفاعلاً مهماً لترسيخ ثقافة السلام في جميع أنحاء العالم.
بدأ عبد العزيز البابطين مشروعه بالحلم: «كان لديّ حلم بأن أترك بصمة في حياة الشعر العربي، وقد حقق الله هذا الحلم، فأسسنا مؤسسة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري في عام 1989». وأول المبادرات إطلاق مشروع «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» وطبع 3 مرات، وبلغ عدد الشعراء في هذا المعجم 2514 شاعراً، وصدر في نسخة ورقية ونسخة إلكترونية، وإلى جانبه أصدرت المؤسسة «معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين» في عام 2008 في «25» مجلداً حيث ضم نحو 11 ألف شاعرٍ.
كما أصدرت المؤسسة «معجم البابطين لشعراء العربية في عصر الدول والإمارات»، وهو العمل الموسوعي الضخم الذي يرصد حركة الشعر العربي ما بين سنة 656 حتى سنة 1215 هجرية (الموافِقة ما بين سنة 1258 إلى سنة 1800 ميلادية)، عملت عليه مؤسسة البابطين على مدى أكثر من 10 سنوات، بجهود دؤوبة لما يزيد عن 100 أستاذ من نخبة الباحثين والدارسين والأكاديميين و500 مندوب، على جمع مواد المعجم من داخل الوطن العربي وخارجه حتى يخرج المعجم إلى النور في 25 مجلداً من القَطع الكبير تشتمل على تراجم ونماذج شعرية لنحو 10 آلاف شاعر.
كما أصدرت بعده معجمها الشعري الرابع، وهو «معجم البابطين لشعراء العربية في بلاد الهند»، ويضم تراجم وقصائد لأكثر من 300 شاعر في 3 مجلدات، وكانت تحثّ الخطى لإصدار معجمين جديدين، هما «معجم البابطين لشعراء العربية مما قبل الإسلام إلى نهاية العصر الأموي» و«معجم البابطين لشعراء العربية في العصر العباسي»، لتغطي بعدها هذه المؤسسة كل الفترات التاريخية للشعر العربي.
عشرات الشعراء والأدباء والنقاد الذين يحضرون دورات البابطين الأدبية والمسابقات الشعرية، لا يشاهد أغلبهم حجم العمل الكبير لهذه المؤسسة في جمع وتحقيق ودراسة وكتابة وطباعة عشرات الإصدارات المتخصصة في أعمال الشعراء، خذ مثلاً الجهد الاستقصائي في البحث عن تراث أبي تمام الطائي، حيث تمّ العثور على مخطوطات نادرة تتضمن قصائد جديدة للشاعر أبي تمام لم يسبق نشرها من قبل، وبعضها بخط يده ضمن مقتنيات متعددة في أحد مساجد «يزد» بإيران، وكانت المخطوطة تحتوي على 387 قصيدة لم ترَ النور منذ 1200 سنة، ما ضاعف التراث الشعري للشاعر العباسي الشهير، فقامت المؤسسة بطباعة هذا الديوان في 8 مجلدات، وتم توزيعه في دورة البابطين في مراكش.
ومثل هذا الجهد تكرر في الدورات السابقة، كدورة «خليل مطران ومحمد علي / ماك دزدار» سراييفو في البوسنة (2010)، ودورة شوقي ولامارتين في باريس (2006)، ودورة ابن زيدون في قرطبة بإسبانيا (2004)، ودورة علي بن المقرب العيوني في البحرين (2002)، ودورة أبي فراس الحمداني في الجزائر (2000)، ودورة الأخطل الصغير في بيروت (1998)، ودورة أحمد مشاري العدواني في أبوظبي (1996)، ودورة أبي القاسم الشابي في فاس (1994)، ودورة محمود سامي البارودي في القاهرة (1992)، إلى جانب المسابقات الشعرية، ومهرجان ربيع الشعر، ومركز البابطين للترجمة، ومركز آخر لتحقيق المخطوطات.
لكن ثمة إضافة نوعية، تجلت في توجه الراحل نحو تعزيز دور الشعر والأدب في حوار الحضارات وإفشاء التسامح بين الشعوب وعقد الملتقيات العالمية لجعل الشعر يفتح مساحات للحوار الحضاري بين ثقافات العالم، مع الذهاب بعيداً نحو ترسيخ مناهج للتسامح والتقارب بين الثقافات المتعددة.
لذلك سيبقى البابطين ما بقي الشعر وما بقي العلم والأدب الذي خلّفه مرجعاً تاريخياً للتراث الثقافي العربي والعالمي… والمؤسسة التي فقدته شاطرها الأسى آلاف الأدباء العرب. يقول أبو الطيب المتنبي: «وَمَن سَرَّ أَهلَ الأَرضِ ثُمَّ بَكى أَسًى / بَكى بِعُيونٍ سَرَّها وَقُلوبِ».