عرب تركيا… هوية مهددة بالانقراض

2

يشكلون ثالث أكبر مجموعة عرقية ويتركزون في ولايات الجنوب ولا حزب يمثلهم
اسماعيل درويش صحفي تركي
مدينة ماردين ذات الغالبية العربية جنوب تركيا (جمعية عرب الأناضول)
ملخص
يعيش نحو 3 ملايين تركي من أصول عربية في ولايات الجنوب ولا يزال عدد كبير منهم يتحدث اللغة العربية، بينما مجتمعهم بصورة عامة انصهر في المجتمع التركي، ويوجد منهم سياسيون وصحافيون ونخب لكن لا يوجد حزب سياسي خاص بهم، إضافة لذلك لغتهم الأم وهويتهم مهددة بالانقراض وفق رأي مراقبين.
“نعيش في هذه الأرض منذ أن ولدنا، لم نعانِ على الإطلاق من تمييز عنصري، ولسنا من العرق التركي، لكننا نحمل جنسية تركيا وننتمي إلى هذا الوطن. الدستور يحمي حقوقنا بالكامل ولا يوجد تمييز بين المواطنين، سواء كان أصلهم تركياً أو عربياً أو كردياً. أنا أتحدث العربية لكن معظم أفراد عائلتي لا يتحدثونها أو يتحدثونها بضعف، بسبب انتقالهم إلى إسطنبول منذ الصغر”، هكذا يصف السيد محمد شريف مارديني وضعه في مدينة ماردين حيث يعيش فيها منذ ولادته قبل 54 عاماً.
ماردين مدينة جنوب تركيا، يقول ساكنوها إنها تشبه مدينة بيروت على رغم بعد المسافات، أما غازي عينتاب فتشبه حلب، فيما يشبهون ولاية شانلي أورفا بمدينة دير الزور السورية، وهكذا باقي مدن الشريط الحدودي لكل من سوريا والعراق مع تركيا، تتشابه القرى والمدن الحدودية، بيد أن التشابه الأكبر هو بين السكان، فليس من الغريب إذا وجدت قرية ما تقع ضمن الحدود الإدارية لتركيا ولا يتحدث سكانها اللغة التركية، فيما يترغلون بالعربية أو الكردية، وهو ما يعكس التنوع العرقي الذي تمتاز به وريثة الإمبراطورية العثمانية خصوصاً في الجنوب.
لا توجد إحصاءات رسمية حول عدد الأتراك الذين يتحدرون من أصول عربية، لذلك اختُلف كثيراً في هذه القضية، فبينما يرى بعض أن عدد العرب الأتراك يتجاوز 8 ملايين نسمة، يجزم آخرون بأن عددهم لا يتجاوز 2.5 مليون، فيما ترجح مصادر أخرى أن عددهم نحو 3 ملايين نسمة.
عشائر عربية في جنوب تركيا خمسينات القرن الماضي (جمعية عرب الأناضول)
بحسب المصادر العثمانية، سجل أول دخول عربي للأراضي التركية نحو عام 600 للميلاد عندما بدأت الهجرة العربية نحو بلاد الشام والعراق وأجزاء من أرض الأناضول، وخلال فترة العهد العثماني اختلط الأتراك بالعرب بصورة أكبر، وكان هناك عدد من المسؤولين في قصور السلاطين من أصول عربية، أما بعد قيام الجمهورية التركية عام 1923 تعرض العرب الأتراك لمحاولات طمس الهوية، خصوصاً مع صعود القومية في البلاد ومحاربة اللغة العربية على اعتبار أنها “لغة الإسلام” بينما الجمهورية الوليدة كانت تقوم على مبدأ العلمانية.
و هذا السياق يوضح شريف مارديني أنه “بعد عام 2001 مع وصول حزب العدالة والتنمية المحافظ إلى الحكم في البلاد تحسن وضع العشائر والقبائل العربية أكثر، فباتت الخدمات تتوافر أكثر، وهناك احترام للهوية العربية هنا في جنوب تركيا، على رغم مرور أكثر من 100 عام فإننا ما زلنا نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا وهويتنا التي نعتز بها”.
مساواة في المواطنة
النائب في البرلمان التركي دوغان بكين يتحدر أيضاً من مدينة ماردين ويتحدث اللغة العربية بطلاقة، وهو عربي الأصل يقول في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “إذا كانت أصولك عربية وأنت تعيش في تركيا وتحمل الجنسية التركية، فهذا يعني أنك مواطن لك الحق بكل ما للمواطن التركي من حقوق يكفلها دستور البلاد، أنا نائب رئيس حزب الرفاه من جديد، وترشحت للانتخابات البرلمانية خلال مايو (أيار) 2023، وفزت بالانتخابات وأنا الآن نائب أحاول خدمة الشعب التركي، وعندما نقول الشعب التركي هذا يعني بكل ما فيه من طوائف وأعراق”.
مدينة شانلي أورفا ذات الغالبية العربية جنوب تركيا (جمعية عرب الأناضول)
لا يتفق الصحافي التركي “م ف” مع بكين، ويرى أن “هناك حدوداً معينة يمكنك الوصول إليها في السلطة، مثلاً إذا كنت من أصول عربية لن تستطيع الترشح لرئاسة البلاد، لا أعني أن الدستور أو القانون يمنع ذلك، بالعكس تماماً، الدستور ينص على أن لكل حاملي الجنسية التركية الحق الكامل من دون وجود أي تمييز على أساس العرق أو اللغة، لكن سيكون من الصعوبة بمكان أن يستطيع مواطن تركي عربي الوصول إلى مناصب عليا في الدولة”.
الأحياء العربية في ماردين (جمعية عرب الأناضول)
لكن العضو في حزب العدالة والتنمية محمد آغا أوغلو ينفي رواية الصحافي “م ف”، ويقول لنا إن “هذا سخيف للغاية، لا أحد يمكنه أن ينكر حصول حوادث عنصرية في تركيا، مثل هذه الحوادث تحصل في أي مكان حول العالم، لكن لا يوجد شيء يميز حامل الجنسية التركية عن شخص آخر يحمل نفس الجنسية. قضية التمييز على أساس عرقي غير موجودة في تركيا، وكما تعلمون تعاني البلاد منذ عقود من إرهاب حزب العمال الكردستاني، لكن لا يمكننا القول إن الأكراد مثلاً ضد تركيا، بل هم مواطنون مخلصون لوطنهم والعمال الكردستاني لا يمثلهم، كذلك هو حال المواطنين الأتراك العرب، وأنا لا أعني فقط المواطنين الذين ولدوا في تركيا من أصول عربية، بل حتى الذين حصلوا على الجنسية التركية أخيراً، جميعهم مواطنون يكفل حقهم الدستور والقانون، ومتساوون في الحقوق مثلهم مثل أقدم إنسان ولد داخل هذه الجغرافيا”.
ثالث أكبر مجموعة عرقية
عرب تركيا مواطنون أتراك من أصل عربي ويشكلون ثالث أكبر مجموعة عرقية داخل البلاد، يتركزون في ولايات الجنوب مثل هاتاي وأضنة ومرسين وسيرت وشانلي أورفا وغيرها، أما في ماردين فيشكل العرب العمود الفقري للمدينة وغالبيتهم مسلمون سنة ومنهم علويون، وهناك حي داخل مدينة هاتاي غالبية سكانه من العرب المسيحيين.
من ضفة ثانية، يمكن القول إن عرب تركيا هم من بقايا الإمبراطورية العثمانية، وبعد سقوط الخلافة وقيام الجمهورية كان عرب الجنوب بعيدين من عاصمة البلاد أنقرة وكبرى مدنها إسطنبول، ولم تكن المواصلات مهيأة كما اليوم، لذلك كانوا يشعرون بانتمائهم العربي أكثر، خصوصاً أنه تربطهم صلات قرابة لا تزال حتى اليوم مع السوريين واللبنانيين والعراقيين.
ويقول الباحث التركي من أصول لبنانية روشن تشاكير إن هناك ما بين 30 إلى 40 ألف لبناني من أصول تركية ويتحدرون من مدينة ماردين، مضيفاً أنه “حتى ستينيات وسبعينيات القرن الـ20 ظل العرب الجنوبيون يتطلعون إلى البلدان الواقعة جنوبهم (سوريا ولبنان والعراق) واستمروا في التواصل معهم، وكانت هناك مشاهد مشهورة في تركيا خلال الأعياد حيث يتجمع الناس على الحدود من الجانبين ويلقون الأشياء والهدايا على بعضهم بعضاً، وكان منهم من يذهب في العيد إجازة لثلاثة أيام يقضيها في إحدى تلك الدول العربية عند أقاربه، وبعد استقلال سوريا ولبنان من الفرنسيين هاجر كثير من عرب تركيا إلى تلك الدولتين وتخلوا عن الجنسية التركية، وأصبحوا مواطنين سوريين أو لبنانيين خصوصاً مع تنامي القومية العربية”.
تظاهرة لأبناء الجنوب التركي من العرب يدعمون الحكومة التركية بعد الانقلاب الفاشل في 15 يونيو 2016 (جمعية عرب الأناضول)
يقول الصحافي التركي “أ ك” إن “هناك مشكلة جذرية تواجه عرب تركيا، والأمر المثير للأسف أنهم سبب هذه المشكلة، وهي أن اللغة العربية باتت تنقرض في مناطقهم، كل جيل جديد يختلف كلياً عن السابق، اليوم تجد في جنوب تركيا فقط كبار السن من يجيدون التحدث بالعربية، وبين الجيل الجديد من النادر جداً أن تجد أحداً يستطيع التحدث بلغته الأم وهي لغة غنية ثرية، وهم لا يطالبون بالحفاظ على لغتهم ولا يطالبون الحكومة بأن تكون اللغة العربية في مناطقهم لغة اختيارية في المناهج الدراسية. دعنا نقارن الأمر مع الأكراد، في مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية معظم الأكراد هناك يتحدثون اللغة التركية وحالهم مثل حال عرب تركيا نسوا لغتهم الأم، لكن الأكراد في كل عشية وضحاها يطالبون بأن تكون لغتهم ضمن المناهج الدراسية، لدرجة أن هذا الموضوع أصبح قضية رأي عام، وهذا غير موجود عند عرب تركيا، فهم لا يطالبون بأي شيء وليس لديهم جمعيات أو منظمات قوية تسهم في الحفاظ على لغتهم وهويتهم، حتى إن صلتهم بأقاربهم في الدول العربية تكاد تنقطع”.
قومية الدولة والعرب
من المثير للاهتمام أن تركيا دولة قومية، وهذا يتناقض مع الوجود الكبير لغير الأتراك (عرقياً) مثل العرب والأكراد، ويُروى عن الرئيس التركي السابق عصمت إينونو أنه عندما زار المناطق العربية جنوب تركيا، قال “عرب تركيا مجتمع حريص على الهوية التركية، نستطيع أن نعرفهم على الهوية التركية بسرعة”، لكن هذا المشروع (تتريك العرب) لم يُكتب له النجاح، لذلك تم اللجوء إلى خيار آخر كان مناسباً للجميع، وهو “قومية الدولة” وتعني الانتماء للدولة، بمعنى آخر المواطنة التي تتوافق مع الدولة ولا تشكل مشكلة للدولة، وهذا الخيار نجح إلى حد ما، فالمواطنون الأتراك من أصول عربية اليوم بالفعل ينتمون للدولة التركية بصورة كاملة ويعتزون بهذا، لذلك كان خيار قومية الدولة مناسباً لأن الخيار الآخر (القومية التركية) يتناقض مع المواطنين الأتراك العرب.
حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا يقول نظامه الداخلي إنه يمثل جميع شرائح المجتمع من دون تمييز على الجنس أو العرق أو الدين أو اللون أو اللغة، وبالواقع يوجد في الحزب أعضاء من مختلف فئات المجتمع، في المقابل يوجد في تركيا أحزاب مبنية على أسس قومية مثل حزب الحركة القومية وحزب “الجيد”، وهناك أحزاب عدة تمثل القومية الكردية لكن لا يوجد في البلاد أي حزب يمثل العرب على الإطلاق.
خلال الأعوام الماضية شهدت البلاد كثيراً من حوادث العنصرية التي استهدفت اللاجئين، وعلى وجه الخصوص السوريين منهم، لكن معظم هذه الحوادث كانت تحصل في المدن الكبرى، وفي المقابل يتعايش اللاجئون في مناطق جنوب تركيا مع المواطنين بصورة أكثر اندماجاً وذلك بسبب القرب الجغرافي، وقد يكون العامل العرقي سبباً أيضاً.
مجتمع مهدد بالانقراض
محمد ألغان صحافي تركي من أصول لبنانية يرى أن عرب تركيا “مجتمع مهدد بالانقراض، واللغة العربية لديهم أصبحت في خطر حقيقي، وبما أن اللغة أصبحت في خطر فإن الهوية أيضاً مهددة، كثير من الجيل الجديد عندما تسأله هل تعرف العربية، يقول لك (أفهم ولكن لا أتحدث)، هذه مشكلة، اللغة هي العنصر الذي يحمي الهوية وأحد الأسباب التي أدت لبدء عملية الانقراض البطيئة هي الهجرة من مناطقهم في الجنوب إلى المدن الكبرى، حيث يبحث الشباب عن فرص أكثر نجاحاً”.
ويضيف ألغان “أعتقد أن من مصلحة تركيا الحفاظ على هوية عرب تركيا ولغتهم، نحن نتحدث عن مجتمع كامل يمكن أن يكون جزءاً من العالم العربي وجزءاً من تركيا، بمعنى آخر نحن نتحدث عن مجموعة اجتماعية يمكنها أن تلعب دوراً أساساً في ضمان الانسجام بين الأتراك والعرب، وتكون بوابة تركيا نحو الدول العربية، وبوابة الدول العربية نحو تركيا”.
إفطار رمضاني في مدينة شانلي أورفا ذات الغالبية العربية (جمعية عرب الأناضول)
إفطار رمضاني في مدينة شانلي أورفا ذات الغالبية العربية (جمعية عرب الأناضول)
مع قدوم ملايين اللاجئين إلى تركيا، وكثير منهم من أبناء القبائل والعشائر العربية، تأسس في تركيا ما يسمى “مجلس القبائل والعشائر السورية”، وخلال حديثه إلى اندبندنت عربية، يقول المتحدث باسم المجلس مضر حماد الأسعد إن “القبائل والعشائر العربية تقطن في جنوب هضبة الأناضول في موش وهكاري ومديات وماردين وديار بكر وباتمان وأديمان وسيرت ونصيبين وشانلي أورفا وحران وكليس وغازي عنتاب ومرعش وأضنة ولواء إسكندرون وهاتاي، فهذه المدن معظم سكانها من العرب وقسم كبير منهم يتكلمون العربية بطلاقة”.
ويوضح الأسعد أن عرب تركيا “هم من قبائل عربية، قسم منهم استوطن المنطقة من قبل الإسلام ومنها قبائل بني أسد وبني بكر وطي وكندة وبني كلب، وبني شيبان وزبيد، ومنها عشائر جاءت بعد الفتح الإسلامي ومنها عنزة وقيس وتلفظ جيس والجبور والشويخ والحبيط والثعالبة والعلي والكضاة والواو والبكارة والنعيم والشيخان والبوبدران والبوخابور، والسادة الأشراف الهواشم، وبني عجل وبني زيد وبني سبعة وبني نيف والمشهور، وظفير والعمرية (أحفاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) والأيوبيون أحفاد الصحابي أبي أيوب الأنصاري”.
ويشير المتحدث باسم المجلس إلى أن قسماً من العشائر والقبائل العربية “اختلطت مع الأكراد والأتراك، وهم جزء لا يتجزأ من نسيج المنطقة التي يعيشون فيها، ومنها حلف عشائر المللية الذي يضم الأكراد والعرب والتركمان والسريان، كما أن لأفراد العشائر والقبائل العربية نشاط كبير في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والتربوية، وقد تبوأ عدد منهم مراكز متقدمة داخل الدولة التركية، وسابقاً في الدولة العثمانية”.

التعليقات معطلة.