الحاضر الأكبر في المفاوضات بين الوفدين الأميركي والأوكراني في مدينة جدة السعودية أمس كان الواقع الميداني للحرب الروسية – الأوكرانية مع استعراض الجانبين أوراق القوة التي يملكانها، قبل تلبية رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الجلوس إلى طاولة الحوار، ووضع حد للحرب التي مضى عليها أكثر من ثلاثة أعوام.
أهمية المفاوضات في جدة هي أنها أول اتصال بين واشنطن وكييف منذ اللقاء العاصف في المكتب البيضوي في 3 آذار/ مارس، بين ترامب ونائبه جي. دي. فانس من جهة، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من جهة ثانية.
وأحاطت بمفاوضات جدة معلومات عن اقتراح أوكرانيا هدنة في الجو والبحر على أساس أن من الأسهل مراقبة مثل هذه الهدنة، قبل الانتقال إلى هدنة في البر.
وقبل ساعات من المفاوضات، شنت أوكرانيا هجوماً بـ 337 مسيّرة على الأراضي الروسية بما فيها العاصمة موسكو، التي استُهدفت بـ91 مسيّرة. وهذا الهجوم هو الأكبر من نوعه منذ بدء الحرب في 24 شباط/فبراير 2022.
ومن اليسير جداً استكناه الغرض من عرض القوة الأوكراني. وهذا ما أفصح عنه مباشرة الناطق باسم المركز الحكومي الأوكراني لمكافحة التضليل أندريه كوفالينكو بقوله: “هذه إشارة أخرى إلى (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين لحضه على الاهتمام بهدنة جوية”.
ويتعين التوقف أيضاً عند حصول هذا الهجوم عقب أيام من إعلان ترامب تجميد المساعدات العسكرية لأوكرانيا، للضغط على زيلينسكي كي يوافق على الشروع في المفاوضات مع روسيا، وكي يوقع على اتفاق المعادن مع الولايات المتحدة، تعويضاً عن المساعدات العسكرية والاقتصادية التي قدمتها واشنطن لكييف طوال فترة الحرب. فهل أراد زيلينسكي أن يثبت قدرة أوكرانيا على الاستمرار في القتال، حتى مع تعليق المساعدات الأميركية؟
الجواب الروسي على “الاجتياح الجوي” الأوكراني جاء على جبهة كورسك، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية استعادة 12 بلدة بما يعادل مساحة مئة كيلومتر مربع من الجيش الأوكراني الذي يتراجع على هذه الجبهة.
ويضغط الجيش الروسي بكثافة على كورسك نظراً إلى أهميتها الرمزية، ولحرمان كييف من ورقة مهمة على طاولة المفاوضات، لكون المنطقة التي اجتاحتها القوات الأوكرانية، العام الماضي، أول أراضٍ روسية يستهدفها الغزو منذ الحرب العالمية الثانية. وغاية الهجوم الأوكراني كانت الإمساك بكورسك للمقايضة على أراضٍ أوكرانية تسيطر عليها روسيا.
ومع احتمال إحراز تقدم في الجهود الأميركية الرامية إلى فتح حوار روسي – أوكراني، كثفت القوات الروسية محاولاتها لإغلاق ثغرة كورسك، إما بدفع القوات الأوكرانية إلى ما وراء الحدود وإما بتطويق هذه القوات ووضعها في مأزق.
وأمام التفوق الروسي في البر، تعتمد أوكرانيا على سلاح المسيّرات لتأخير تقدّم القوات الروسية، وضرب مصافي النفط وطرق الإمداد واستهداف موسكو بين الحين والآخر لما لذلك من أثر نفسيّ على الكرملين.
أدخلت أوكرانيا بنجاح المسيّرات في لعبة التوازن مع الهجمات الروسية بالصواريخ الباليستية والمسيّرات على البنى التحتية الأوكرانية، خصوصاً محطات توليد الكهرباء في كييف ومدن أخرى.
السباق بين جبهات القتال والديبلوماسية سيتصاعد في الأيام والأسابيع المقبلة، مع إصرار كل طرفٍ على إظهار مكامن القوة لديه، واستخدامها في عملية التفاوض للضغط على الطرف الآخر، أملاً في الحصول على تنازلات.
يضاف إلى ذلك أن المفاوضات في حال حصولها، ستكون محكومة بالمعادلات الجديدة الناشئة بين ضفتي الأطلسي، وبسعي الأوروبيين، بجدية هذه المرة، إلى البحث عن بدائل للحماية التي وفرتها الولايات المتحدة للقارة القديمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ترى معظم الدول الأوروبية أن ترامب تخلّى عن أوكرانيا، وهي تعمل حالياً كي لا تأتي أي تسوية محتملة للنزاع على حساب كييف بما يجعل بوتين يستعيد الكثير من الهيبة التي فقدتها روسيا بغرقها في المستنقع الأوكراني.