… وفي مطلع السنة الثامنة من الحرب في سورية، وعليها، طلع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتصريحه الخطير الذي أعلن فيه عزم الولايات المتحدة على الخروج «قريباً جداً» من سورية، لتعود القوات الأميركية إلى بلادها. وكالعادة، عندما يرتجل ترامب موقفاً، أو قراراً، يمس استراتيجية وزارة الدفاع، أو يعاكس قواعد وزارة الخارجية، لا تتأخر هذه الوزارة بالتدخل، لا لنفي كلام الرئيس، أو مناقضته، إنما «للتوضيح». وقد أكملت الخارجية نص التصريح بما يفيد «إن الإدارة الأميركية لا تفكر، حالياً، بسحب قواتها من سورية».
على أي حال، سواء خرجت القوات الأميركية من سورية أو بقيت، على سبيل إثبات الوجود من خلال بعض الصواريخ، أو الرمايات التحذيرية للجبهات المعادية، فلن تتبدل موازين القوى في الحرب السورية. ذلك أن كل الدول العظمى موجودة على الأراضي السورية، وفي أجوائها، فضلاً عن بحرها، وأجهزة مخابراتها، ومع هذا الوجود العسكري الأممي على رقعة بلاد صغيرة المساحة بالنسبة إلى الدول العظمى، تستمر الحرب في سورية وكأنها ميادين مناورات واختبار أسلحة متطورة لم تُجرّب على الأرض، أو في البحار والأجواء.
وفي الوقت عينه، تعطي روسيا مثالاً آخر لدورها في حرب سورية. فهي تخوض هذه الحرب بكل أنواع أسلحتها ومعداتها الأرضية، وأساطيلها البحرية والجوية، وهي موجودة في الإدارة السورية، السياسية والعسكرية والشعبية. بل إن روسيا تعتبر حرب سورية حربها، وهي مصممة على أن تربحها، ولو على حساب الشعب السوري وإرادته وحريته وكرامته الوطنية والقومية. فالمسألة باتت قضية دولة عظمى، لا قضية وطن وشعب آخر.
إلى ذلك، هناك قيادة روسية مختلفة عن قيادات دولية أخرى. فالرئيس فلاديمير بوتين مختلف عن القادة الآخرين في الغرب. إنه رئيس نموذج ذاته، خصوصاً أنه جاء إلى «عرش» الكرملين من غرف عمليات المخابرات السوفياتية حيث تأهل لكل المهمات.. وثمة جيل روسي كبير لا يزال يتذكر ذلك التحول التاريخي الذي طرأ على مسار الاتحاد السوفياتي.
ففي مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 1993 نزل الزعيم الروسي السابق بوريس يلتسن من قصر الكرملين في العاصمة موسكو، ومشى في الساحة الحمراء يحوط به وزير الدفاع الجنرال بافل غرانشيف، ووزير الداخلية فيكتور إيرين، ووزير الأمن نيكولاي غولشكو. وتقدم الموكب الرئاسي على وقع دوي إطلاق المدافع، وقرع أجراس الكنائس نحو فرقة موسيقية كانت متأهبة لعزف «أوركسترا واشنطن السيمفونية» بقيادة العازف الروسي الشهير ماتستيلاف روسترو بوفيتش. وإذ عزفت الفرقة مقدمة تشايكوفسكي انتهى الحفل بهتاف شعبي ترددت أصداؤه في محيط الكرملين: «لنؤمن بالرئيس يلتسن… لنؤمن بمستقبل روسيا».
كان ذلك عرضاً رمزياً أراده الزعيم الروسي الآتي على أنقاض الحكم الماركسي الذي طال ثلاثة أرباع القرن، ليبلغ خصومه في الداخل، ومن يعنيهم الأمر في عواصم العالم، أن زر التحكم بالصواريخ النووية الروسية بات في يده. لكن يد يلتسن كانت طويلة على القوانين وعلى المال العام وعلى إرث الاتحاد السوفياتي…
صمد بوريس يلتسن في حكم الكرملين حتى نهاية العام 1999 حين بات عاجزاً عن ممارسة مسؤولياته بسبب المرض، فاستقال ليفسح في المجال أمام صاحب الحظ فلاديمير بوتين الذي فاز في مطلع العام 2000 برئاسة الدولة العظمى التي صار اسمها «الاتحاد الروسي».
الرئيس بوتين هو اليوم الرجل الوحيد في العالم الذي يملك قرار مستقبل سورية التي دخلت سنتها الثامنة من الحرب، ولم تبق فيها دولة، ولا مؤسسات ولا اقتصاد، لا صناعة ولا زراعة ولا تجارة، ولا استثمار ولا جيش موحد. لكن مقابل ذلك ثمة أرقام مئات آلاف الشهداء والضحايا والدمار، والشتات في جميع أقطار الأرض، مع الحسرة على بلاد اشتهر شعبها بالشهامة والشهادة والشجاعة، والإخلاص لوطنه ولبني قومه، وهو يتساءل في أرض نكبته وهجرته وغربته: لماذا هذا المصير؟ ومتى الخلاص، وبأي ثمن، وعلى يد أي قائد مخلّص؟
خلال سنوات الحرب السورية المستمرة منذ سبع سنوات جدّد الرئيس فلاديمير بوتين ولايته الرابعة في النصف الثاني من آذار (مارس) الفائت، وقد لا تكون الأخيرة، وهو اجتاز معركة تجديد ولايته كما لو أنها مناسبة عادية، بالقليل من الجهد، وبالكثير من الافتخار بالثقة التي أولاه إياها الشعب الروسي. ويمكن للمراقب أن يلاحظ مزايا هذا الرئيس الذي يبدو على شاشة التلفزيون بوجه هادئ، وبنظرات منخفضة تنمّ عن كبرياء ووداعة، وعن ثقة عميقة بالنفس.
هذا الرئيس الآتي من «الأمن العسكري السياسي» أي الاستخبارات، حيث كان العين السوفياتية الثاقبة على حدود برلين الشرقية قبل سقوط الجدار الشهير، ووراءه عالم الغرب، يحفظ من الأسرار ما يكفي لملء مؤلف ضخم عن الأحداث، والوقائع والخطط، التي رُسمت على مدى سنوات في دوائر الغرب، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، وقد أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفكك الأحزاب الشيوعية التي كانت حاضرة وناشطة في معظم دول العالم كما في كل مدنه وأريافه ومؤسساته، وجيوشه وأحزابه وجمعياته الشعبية والأهلية. وقد مرّت قبل بضعة أسابيع الذكرى المئوية لولادة الثورة الشيوعية في روسيا بالحد الأدنى من مظاهر الاهتمام، شرقاً وغرباًـ ومن يدري ماذا يدور في رأس الزعيم الروسي، وبماذا يفكر لمرحلة ما بعد تقاعده، حين يروح يراجع مسيرته وذاكرته. بل لعله يجد نفسه في مرتبة المؤتمن على أسرار نهاية القرن العشرين، فيحجز الفصل الأول من تاريخ القرن الحادي والعشرين على اسمه، ويهيئ له الحدث التاريخي الذي قد يتبناه وينجزه.
لكن أي حدث يمكن أن يتقدم على وضع سورية ومستقبلها، بل مصيرها. وأي سورية؟.. هذا هو السؤال الكبير في مطلع السنة الثامنة من الحرب في سورية وعليها، وقد تمركزت المعارك أخيراً بين الجيش السوري والقوات الروسية بمختلف معداتها وعديدها، من جهة، وفصائل تنظيمات دينية متطرفة من جهة أخرى، في منطقة الغوطة الشرقية و «دوما» في ضواحي دمشق، و «الغوطة» من أوائل المناطق التي تجاوبت مع الثورة الشعبية، وقد صمدت السنوات السبع الماضية بكل إمكاناتها وقواها الشعبية، وتخطّت تضحياتها من الشهداء والمعوقين مع الدمار والنزوح كل الحدود.
فإلى متى تستمر هذه الحرب التي تواكبها جيوش، وغرف عمليات، وأساطيل بحرية وجوية من الدول الكبرى؟… سؤال لا جواب عنه إلا عند الرئيس فلاديمير بوتين الذي تحصّن بقلادة الدورة الرئاسية الرابعة تحت قبة الكرملين…
وحده بوتين القادر على إنهاء هذه الحرب، فهو الذي يملك القوة التي تسمح له بأن يقول للنظام السوري: كفى…
وكم يكون الرئيس الروسي عظيماً إذا ما دعا الدول الكبرى إلى التصويت على قرار لمجلس الأمن يضع الجمهورية العربية السورية تحت وصاية دولية تتولى الإشراف على انتخاب رئيس جديد للبلاد المنكوبة، تشارك فيه ملايين السوريين النازحين إلى جميع أقطار العالم، حيث تتوافر لهم شروط الحرية والطمأنينة في الاقتراع، وتكون النتيجة: ولادة جمهورية عربية سورية ديموقراطية، فتأخذ مكانتها في مقدمة إنجازات القرن الواحد والعشرين. وهكذا تكون العودة السورية من أقطار الشتات رافلة بأعلام النصر.
وحدها المنظمة الدولية يمكن أن تؤتمن على مستقبل سورية، كياناً ودولة وشعباً، كما تؤتمن على سلامة مستقبلها، وتضحيات شهدائها من مدنيين وعسكريين، للخروج بها من مستنقع الدم والدمار والضياع، إلى عالم الأمن، والأمان والاستقرار والطمأنينة، والقدرة على استعادة الدولة المدنية بكامل مؤسساتها، وإعادة بناء جيشها الذي يحمي نظامها وأمن مواطنيها، ويحقق الحلم العربي باستعادة الحق الفلسطيني في بلاده.
هذه المهمة العظمى لا يستطيع الرئيس بوتين وحده القيام بها، مهما أوتي من قوة ونفوذ وإمكانات، وشفافية وحياد. لكنه يستطيع أن يكسب في التاريخ صفحة عربية حضارية تخلده إذا ما انحاز إلى شعب سورية وتبنى مشروع إنقاذها وضمان مستقبلها بالقانون الدولي.
ويكفي الرئيس الروسي أن يضع حرف السين في مكان حرف الراء، وحرف الراء في مكان حرف السين في كلمة «روسيا» ليكتشف النتيجة الباهرة.