روبرت فورد
يمكن للأميركيين في نهاية عام 2017 مطالعة نتائج أخطائهم الفادحة في سوريا؛ إذ تمدد النفوذ الإيراني في سوريا وليس لدى الأميركيين من وسيلة لوقفه أو تحجيمه. وتهيمن روسيا على المجال الدبلوماسي في شأن الملف السوري. وعندما خلص فريق المحققين التابع للأمم المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى أن بشار الأسد استخدم الأسلحة الكيماوية مرة أخرى، في انتهاك صريح للكثير من قرارات مجلس الأمن الدولي والاتفاقات الأميركية – الروسية الخاصة المعنية بهذا الصدد، استخدم الجانب الروسي في نوفمبر (تشرين الثاني) حق النقض (فيتو) لمنع إجراء المزيد من التحقيقات في الأمر.
وكانت المساعدات العسكرية الأميركية لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري و«وحدات حماية الشعب» التابعة له من أبرز أسباب استعادة الأراضي الشرقية السورية من تنظيم داعش الإرهابي، وكانت من أكبر الإنجازات العسكرية الأميركية هناك. غير أنه انتصار عسكري من دون قيمة سياسية فاعلة رغم كل شيء. ويحتاج الأكراد السوريون إلى الحماية الأميركية من مخاطر التطويق التي تفرضها قوات الحكومة السورية وتركيا وميليشيات تابعة لإيران. وكان الرد الأميركي من واشنطن يفيد باستمرار بقاء القوات الأميركية في سوريا لضمان عدم عودة «داعش» إلى مسرح الأحداث. ووصفت وزارة الخارجية الروسية في نوفمبر الماضي الوجود العسكري الأميركي في سوريا بأنه غير قانوني، وطالبت من الولايات المتحدة بسرعة سحب قواتها من سوريا. كما أعلنت إيران المطالب نفسها، وهناك تقارير تفيد بتهديدات مباشرة أطلقها الجنرال الإيراني قاسم سليماني ضد القوات الأميركية المنتشرة في سوريا.
ومن المرجح أن تستخدم دمشق وطهران، بدعم من موسكو، التكتيكات غير التقليدية في ممارسة الضغوط على الجانب الأميركي هناك، تماماً كما فعلوا في العراق قبل عشر سنوات. ومن واقع حديثي مع مختلف شرائح المجتمع الأميركي بشأن سياسة الولايات المتحدة، فإن المواطنين الأميركيين يشعرون بالدهشة عندما يعلمون أن للولايات المتحدة وجوداً عسكرياً طويل الأمد في سوريا. ولم أجد من أحد يؤيد الدور العسكري الأميركي طويل الأجل في سوريا.
والأسوأ لم يأت بعد؛ إذ أعلنت واشنطن اعتزامها الحفاظ على وجودها العسكري في شرق سوريا حتى إبرام اتفاقية السلام المعنية بإنهاء الحرب الأهلية السورية، لكنها لا تملك النفوذ الكافي لتسهيل عملية السلام هناك. بدلاً من ذلك، فإن روسيا تحاول ممارسة الضغوط لفرض خطتها الخاصة للسلام. وأعلن الجانب الروسي أن مناطق خفض التصعيد هي من القرارات الناجحة رغم فظائع القصف المروعة في أماكن متعددة، مثل الغوطة الشرقية لدمشق وريف حلب. ومن شأن مناطق خفض التصعيد أن تسمح للأمم المتحدة بتوصيل المساعدات الغذائية إلى المناطق المنكوبة، لكن القليل للغاية من هذه المساعدات قد بلغت وجهتها بالفعل. بدلاً من ذلك، فإننا لا نزال نشاهد الصور الجديدة للأشخاص الذين يعانون من سوء شديد في التغذية. ولا يزال القصف مستمراً من قوات بشار الأسد وحلفائه، ويواصلون الهجوم والتقدم، شارعاً بشارع في مدن الغوطة وحماة وحمص من دون أي عقاب روسي واضح.
ورسالتي إلى السيد بوتين شديدة البساطة: رجاء لا تصف الأمر بأنه اتفاقية أو وقف لإطلاق النار. مع استمرار الخروق والانتهاكات، يعتبر ذلك من قبيل الاستخفاف المباشر بذكاء الجميع.
وتساورني توقعات غير سعيدة بشأن مستقبل السياسات الأميركية في الصراع السوري. وعلى غرار ما فعلته إيران في عامي 2014 و2015، فإن بوتين يحض الآن على صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات جديدة تحت إشراف الأمم المتحدة. وتخلت الحكومة الأميركية عن الدعوة إلى حكومة انتقالية قبل صياغة الدستور وإجراء الانتخابات الجديدة في سوريا. وأخبر الدبلوماسيون الغربيون فصائل المعارضة السورية أنهم يمكنهم المشاركة في الانتخابات تحت مظلة حكم بشار الأسد؛ نظراً لاحتمال هزيمة حكومة الأسد في صناديق الاقتراع على أيدي المعارضة. وأعرب الدبلوماسيون الأميركيون وغيرهم من الغربيين عن وعودهم بإشراف الأمم المتحدة على الانتخابات السورية المقبلة. فهل يعتقد الأميركيون أن سوريا ستكون على غرار العراق في عامي 2005 و2006 مرة أخرى؟
كنت أعمل في العراق بين عامي 2003 و2006، وكان للجيش الأميركي قرابة 150 ألف جندي داخل العراق، وكانت الأوامر لهم صريحة وصارمة من الرئيس جورج بوش باتباع تعليمات الأمم المتحدة بخصوص الانتخابات العراقية. ولم تكن قيادة الجيش الأميركي مسرورة على الدوام بأوامر الرئيس بوش، غير أن البيت ألبيض كان عاقد العزم على إشراف الأمم المتحدة على الانتخابات المنصفة والنزيهة باعتبارها الخطوة الأولى على طريق الانسحاب الكامل للجيش الأميركي من المستنقع العراقي.
فهل يعتقد أحد أن الجيش السوري والشرطة السرية (الاستخبارات) سيتلقيان الأوامر من الأمم المتحدة بشأن الانتخابات كي تتمكن الحكومة السورية الجديدة في خاتمة المطاف من الحد من سلطاتهم ومساءلاتهم عن جرائمهم؟ إن الأمم المتحدة عاجزة الآن عن مجرد توصيل المساعدات الإنسانية إلى الغوطة الشرقية رغم الوعود الروسية بذلك؟ فكيف سيتسنى للأمم المتحدة فرض قوائم الناخبين الصحيحة، وقبول تسجيلات الأحزاب والمرشحين، والشروع في الحملات الانتخابية المنفتحة والمنصفة، وإتاحة الوصول إلى مختلف وسائل الإعلام السورية من دون التدخل والاعتقال والملاحقة من جانب الشرطة السرية (الاستخبارات) الخاضعة لحكومة بشار الأسد؟
إن أي مسؤول أميركي يعتقد أن سوريا ستشبه العراق فيما بعد عام 2005، فإنه لا يفهم ديناميات الواقع السوري الراهن التي تختلف تماماً عن العراق قبل عشر سنوات. لقد تعرض جيش صدام حسين وأجهزته الأمنية للهزيمة والتدمير في عام 2003 قبل إجراء الانتخابات العراقية، لكن في سوريا، فإن الجيش النظامي السوري والأجهزة الأمنية، رغم الخسائر، لا يزالان يطاردان السوريين داخل البلاد من دون أسف أو ندم. بإمكانكم سؤال علي مملوك (مدير مكتب الأمن الوطني) وجميل حسن (رئيس الاستخبارات الجوية) عن ذلك.
بالتالي، من المؤكد أن الرئيس السوري وزمرته المقربة لن يذهبوا إلى أي مكان. ربما تحصل بعض التغييرات السطحية الطفيفة، مثل رئيس جديد للوزراء، أو تعيين وزير جديد للتخطيط، أو شيء من هذا القبيل. غير أن هذه التغييرات لن تنال من أو تطرأ على النواة الأساسية للنظام الحاكم الذي سيبقى ويبقى الأسد في كرسيه. وصياغة الدستور الجديد لن تفيد في شيء. إن المشكلة السورية الحقيقية تكمن في الدولة الأمنية البوليسية التي لا تقبل المساءلة، وتغتال أو تعتقل كل من يطالب بالتغيير الحقيقي بصرف النظر تماماً عن وجود الدستور من عدمه. إن الدولة الأمنية السورية ستخرق وتنتهك مواد الدستور الذي يمكن أن يكون رائعاً على الورق. المشكلة السورية ليست مشكلة دستورية. بل إنها مشكلة تتعلق بحكم وسيادة القانون. وروسيا، التي هي أيضاً دولة بوليسية أمنية، تدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك. فهي تفضل الحلول الأمنية المتلفعة بثياب الحلول السياسية.
لذا؛ فإن الخطة الروسية المعنية بالحوار الموسع وإجراء الانتخابات الجديدة ليست إلا قصة مثيرة لكل من السخافة والسخرية. وهي قصة ساخرة نظراً لأن نظام بشار الأسد أبداً لن يقدم أي تنازلات على أي صعيد. لقد فاز في الحرب العسكرية على الأرض.
والفكرة السخيفة بأن الدستور السوري الجديد والانتخابات التي تشرف عليها الأمم المتحدة سيوفران التسوية السياسية المنصفة للجميع هي فكرة تفترض في بادئ الأمر أننا من دون عقول تفهم أو عيون ترى. وإنها ليست سوى إهانة جديدة تسبب فيها الأميركيون وآخرون من الأطراف الذين هم مسؤولون أولاً عن ذلك.