حين يتحوّل الفساد من سلوك شاذ يُستنكر إلى نمطٍ مألوفٍ يُتعايش معه، فاعلم أن النظام لم يفسد فقط، بل أفسد الوعي، وأعطب البوصلة، وزرع ثقافة الخضوع والتكيّف بدلًا من ثقافة التغيير والمساءلة.
بنية الفساد المتجذر
لم يعد الفساد في العراق اليوم فعلاً استثنائيًا ولا حالة طارئة تُعالج. لقد ترسّخ عبر عقود ما بعد 2003، وأصبح جزءًا من بنية الحكم، وليس مجرد انحراف داخلها. تحوّلت الدولة من مؤسسات خدمية إلى جزر مالية للنهب والمحاصصة. وبدلاً من معالجة هذا الواقع، اختار المواطن ـ مُكرهًا أو مضللاً ـ التكيّف معه، حتى بات الفساد بالنسبة له قدرًا لا مفرّ منه، و”شاطر من يعرف يسرق وما ينكشف”.
مألوفية الفساد أخطر من الفساد نفسه
أسوأ ما يصيب المجتمعات ليس شيوع الفساد فحسب، بل قبوله كأمر واقع. عندما يُصبح الفاسد محترمًا، والمصلح مشكوكًا في دوافعه، وعندما يُنظر إلى “النزاهة” كحماقة أو عجز عن استغلال الفرصة، نكون قد وصلنا إلى لحظة انهيار القيم، وهي أخطر من انهيار الاقتصاد أو الأمن.
هذه المألوفية لم تولد من فراغ، بل كانت نتيجةً لخطاب سياسي ممنهج روّج لفكرة أن “الكل فاسد”، وبالتالي لا جدوى من مقاومة الفساد، ولا فائدة من التغيير. وهكذا تحوّل الإحباط إلى تكيّف، والتكيّف إلى خنوع، والخنوع إلى تطبيع مع القبح.
النخبة الحاكمة: تكرار الوجوه وتدوير الأزمات
أكثر ما يلفت الانتباه في المشهد العراقي هو إعادة إنتاج ذات النخب السياسية التي أسّست وترعرت في بيئة الفساد. كلّ أزمة تُولد تحت أعين نفس السياسيين، وبأيدي نفس الأحزاب، وبتواطؤ نفس أدوات الإعلام. المواطن محاصر بخياراتٍ كلها فاسدة، ويُطلب منه التصويت لواحد منها!
أما الوعود بالإصلاح، فلم تعد إلا لازمة انتخابية تُقال لتخدير جمهور سئم من التكرار لكنه فقد الثقة بوجود بديل جاد. لقد حوّل النظام القائم، الفساد، إلى وسيلة للسيطرة، والمحاصصة إلى شبكة تبادل مصالح، والعقاب إلى انتقائية انتقامية تطال الخصوم لا الفاسدين الحقيقيين.
ما بعد الاعتياد: الطريق إلى الانفجار
صحيح أن التكيّف مع الفساد خفف من حدّة الاحتجاجات المباشرة، لكنه لا يعني الاستقرار. فكل نظام يقوم على الاستنزاف والنهب، عاجلًا أم آجلًا، يُولِّد بيئة انفجار شعبي. لحظة الوعي الجمعي لن تبقى بعيدة، خاصة مع جيل جديد لم يعد مؤمنًا بروايات “التوافق الوطني” ولا “الخصوصية العراقية”، بل يبحث عن عدالة وكرامة ومؤسسات تخدم لا تسلب.
إن أخطر ما فعله النظام القائم ليس إفساد المال، بل إفساد الوعي. حين يصبح الفساد مألوفًا، تُصاب الأمة بعجز أخلاقي يجعلها غير قادرة على استشعار القبح ولا مقاومته. لكن الوعي يتسلل حتى في أكثر العتمات، والتاريخ أثبت أن الشعوب قد تصبر، لكنها لا تنسى… ولا تسامح إلى الأبد.