علي العبدالله
مر أسبوعان على الحملة التركية على «وحدات حماية الشعب»، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (السوري)، في منطقة عفرين استُخدمت فيها قوة نارية كبيرة وكثيفة: قوات برية ضخمة تشمل الدبابات والمدرعات وناقلات الجنود تساندها قاذفات أف 16 وطائرات درون (طائرات من دون طيار) وآلاف المقاتلين السوريين من كتائب تنتمي إلى الجيش السوري الحر، عرب وتركمان وكرد، راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى من المقاتلين والمدنيين وألحقت دماراً كبيراً ببلدات وقرى المنطقة، ما دفع الأهالي والنازحين السوريين فيها إلى الفرار باتجاه مركز مدينة عفرين وقرى ريف حلب الشمالي الشرقي.
وكشفت المعارك العنيفة التي دارت طوال الأيام الماضية صعوبة مهمة القوات المهاجمة في ضوء تداخل وتشابك المعطيات السياسية والعسكرية والجغرافية إن لجهة صلابة القوة المدافعة التي تخوض المواجهة معززة بعقيدة سياسية متينة وخبرة ميدانية كبيرة، من جهة، وجغرافيا مواتية وحاضنة شعبية محلية مؤيدة، من جهة ثانية، تكللها مراهنة على تحول إقليمي ودولي لصالحها على خلفية الضحايا والدمار الذي ألحقته وتلحقه القوات المعتدية بالمدنيين وبلدات وقرى المنطقة (بدأت بوادرها بالتحذير الفرنسي والتحرك الأميركي لتلبية المخاوف التركية ووقف العملية)، أو لجهة ضعف الغطاء الإقليمي والدولي واشتراطاته المقيدة (ضوء أصفر روسي يقيد فترة السماح ويمنع اجتياح مدينة عفرين، غض نظر غربي مصحوباً بضغط من أجل حماية المدنيين).
اعتمدت الحملة السياسية والديبلوماسية والإعلامية التركية لتبرير العملية العسكرية ضد «وحدات حماية الشعب» في منطقة عفرين على ربط معطيات بعضها ببعضها الآخر في محاكمة «منطقية» صورية (حزب العمال الكردستاني (التركي) حزب إرهابي، وفق التصنيف الدولي، حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (السوري) فرع له، إذن هو حزب إرهابي بالتبعية، وبما أن الأول يقوم بأعمال إرهابية في تركيا فإن ما يقوم به الثاني، بغض النظر عن الظروف والسياق الخاص، هو عمل إرهابي بالضرورة، وبما أن عمليات الأول على الأراضي التركية خطر على الأمن القومي التركي، فإن ما يقوم به الثاني هو خطر على الأمن القومي التركي كذلك)، وصاغت قضية ورفعت راية «محاربة الإرهاب»، التي استخدمتها دول إقليمية ودولية كثيرة في تدخلاتها في دول وملفات ساخنة ما جعلها ورقة رائجة ورابحة، من حيث المبدأ على الأقل، وسعت إلى ترويج محاكمتها «المنطقية» و «مخاوفها الوطنية» على المستويات الداخلية والخارجية، والتلويح بورقة المهاجرين بالإعلان أن في تركيا 3.5 مليون سوري يجب أن يعودوا، أي يخرجوا من تركيا، إلى ديارهم، أو إلى أي مكان، كي تقطع الطريق على تدخلات إقليمية أو دولية يمكن أن تعترض على عمليتها العسكرية، وهذا بالإضافة إلى المقايضة في الملف السوري والتضحية بمطالب الثورة السورية وتطلعات ثوارها وحاضنتها الشعبية، من أجل الحصول على غطاء روسي لهذه العملية.
حاول النظام التركي عبر محاكمته «المنطقية» وضع حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (السوري) في خانة الخطر على الأمن القومي التركي وإلصاق تهمة الإرهاب به ليس لأعمال إرهابية نفذها على الأراضي التركية أو ضد المصالح التركية في الخارج ولكن لارتباط الحزب المذكور بحزب العمال الكردستاني (التركي) المصنف دولياً كحزب إرهابي، علماً أن تصنيف الثاني جزء من مخلفات الحرب الباردة ليس إلا، حيث كانت تركيا في صف التحالف الغربي في مواجهة حلف وارسو والمنظمات اليسارية والماركسية، التي يعتبر الحزب أحد تشكيلاتها، في كل أنحاء العالم، ومن يقف ضدها أو يقاوم نظامها وسياستها يصنف من قبل التحالف الغربي كعدو وتصنف أعماله أعمالاً غير شرعية وإرهابية، علماً أن ممارساته العنيفة المرفوضة والمدانة نقطة ضعف قاتلة لسرديته حول الحقوق الكردية في تركيا. الطريف في الموقف تأييد أحزاب وقوى سياسية عربية (إسلامية وقومية) للموقف التركي وإدانتها ارتباط حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (السوري) ووضعه في خانة الإرهاب، من دون أن تشعر أنها وهي تدين ارتباط هذا الحزب بحزب العمال الكردستاني التركي فإنها تدين نفسها في الوقت نفسه لأنها إما على ارتباط بأفكار وقوى خارج حدود الوطن السوري (الإخوان المسلمون، الجماعات السلفية السورية، الناصريون) أو إن لها امتدادا خارج الوطن السوري (البعثيون، السوريون القوميون الاجتماعيون)، وأن تبرير ارتباطها برابطة الدين أو العروبة أو الأمة السورية يجب أن يمنعها من إدانة ارتباط الكرد برابطة الكردستانية، من جهة، الوطني السوري وحده قادر على إدانة الارتباط بقوى خارجية لأنه يؤسس موقفه على الرابطة الوطنية فقط، وأن الحزب المذكور جزء من المعادلة السورية وإنها ستدخل معه، شاءت أم أبت، في مفاوضات حول الحل النهائي في سورية، من جهة ثانية.
تكمن نقطة ضعف «القضية» التي صاغتها الحملة السياسية والدبلوماسية والإعلامية التركية في بنيتها غير المنطقية لأنها خلطت معطيات مستويي الصراع التركي الكردي (حقوق الكرد وممارساتهم)، وأبرزت الثاني (مجريات الصراع ووقائعه وأدوات المتصارعين وأساليبهم) كي تغطي على الأول (حقوق شعب يريد تجسيد هويته القومية بصورة من صور الكيانات السياسية المعروفة: إدارة ذاتية، حكم ذاتي، فيدرالية، استقلال) وتلغيه بدلالة الثاني، واستثمرت ممارسات «الوحدات» في المناطق العربية والمختلطة التي سيطرت عليها (قمع، ابتزاز، تجنيد إجباري، طرد من القرى بحجة العلاقة مع داعش) في تأليب العرب ضد الكرد (مؤتمري العشائر العربية)، ودفع فصائل الجيش السوري الحر لتحمل الجزء الرئيس من المواجهة البرية وبذل الدم السوري في خدمة المشروع التركي.
قد تنجح الحملة العسكرية التركية بهزيمة «وحدات حماية الشعب» والسيطرة على منطقة عفرين، لكنها لن تنهي الصراع التركي الكردي داخل تركيا وخارجها بل ستزيده مرارة واحتقاناً وتبقيه ناراً متقدة يزيد أوارها كلما توفرت قدرات كردية على تصعيد الصراع، وأن الأجدى، على المدى الطويل، الانخراط في تسوية تاريخية تضع حداً للمواجهة الدامية وتفتح الطريق لاستقرار وازدهار شعوب المنطقة ودولها.