لقد ظلت منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص العراق، ساحةً تتجاذبها قوى النفوذ الدولي، وبشكل خاص الولايات المتحدة وإيران. هذا الصراع، الذي امتد لعقود، كشف عن ازدواجية النفوذ الذي تمارسه الولايات المتحدة وإيران على الدول في المنطقة، ما أدى إلى تعقيد المشهد السياسي والاقتصادي، وعرقلة عملية بناء الدول وتحقيق الاستقرار.
إرث النفوذ الأمريكي-الإيراني
منذ الثورة الإيرانية عام 1979، بدأت إيران في تعزيز وجودها الإقليمي، مدفوعة بتطلعاتها التوسعية وأيديولوجيتها الثورية. على الجانب الآخر، حاولت الولايات المتحدة احتواء هذه الطموحات من خلال سياسات متناقضة؛ ففي حين أنها دعمت حلفاءها التقليديين في الخليج، استمرت في التعامل مع إيران ضمن ترتيبات إقليمية غير رسمية. هذه الازدواجية سمحت لإيران بالتوسع في العراق ولبنان وسوريا واليمن عبر دعم الفصائل المسلحة والجماعات السياسية.
العراق يُعد مثالاً صارخاً لهذه الازدواجية، إذ أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 لم يقتصر على إسقاط نظام صدام حسين فحسب، بل فتح الباب أمام نفوذ إيراني غير مسبوق في العراق. وبينما حاولت الولايات المتحدة بناء حكومة ديمقراطية موالية لها، كانت إيران تعمل في الظل لتعزيز نفوذها عبر دعم الميليشيات المسلحة والسياسيين المرتبطين بها. ونتيجة لذلك، بات العراق محكوماً بنفوذين متناقضين، أحدهما علني من خلال الوجود الأمريكي، والآخر خفي لكنه مؤثر للغاية عبر النفوذ الإيراني.
ضرورة حسم الموقف
اليوم، بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على الغزو، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام واقع يصعب تجاهله: الازدواجية في النفوذ لم تعد تجدي نفعاً، بل أصبحت عائقاً أمام تحقيق أي استقرار طويل الأمد في المنطقة. استمرار هذه السياسة يعزز من قوة إيران ويجعل من الدول المستهدفة، كالعراق ولبنان، ساحة لصراع مستدام يحرم شعوبها من بناء دول مستقرة ومستقلة.
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، فعليها أن تتخذ خطوات واضحة لحسم هذه الازدواجية. يجب أن تتبنى واشنطن سياسة جديدة تستهدف تحجيم الدور الإيراني في المنطقة بوضوح، سواء عبر الضغط الدبلوماسي أو الاقتصادي أو حتى العسكري، إن لزم الأمر. كما ينبغي على الولايات المتحدة تعزيز علاقتها مع القوى الإقليمية الحليفة كالسعودية وإسرائيل، والعمل على بناء تحالفات جديدة قائمة على المصالح المشتركة ورفض التدخلات الخارجية، خاصة الإيرانية.
تداعيات الاستمرار في الازدواجية
استمرار هذه الازدواجية لن يضر فقط بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، بل سيعزز أيضاً من قوة الجماعات المتطرفة والميليشيات المسلحة التي تستفيد من هذا الصراع القائم. كما أنه سيجعل الدول المستهدفة، وعلى رأسها العراق، عاجزة عن بناء مؤسسات حكومية قوية وقادرة على تحقيق تطلعات شعوبها.
إن إنهاء ازدواجية النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران يتطلب إرادة سياسية قوية، واعترافاً بأن الاستقرار الحقيقي في الشرق الأوسط لن يتحقق إلا من خلال بناء دول مستقلة، غير خاضعة لأي نفوذ خارجي، سواء كان أمريكياً أو إيرانياً. يجب على واشنطن أن تدرك أن مصلحتها الحقيقية تكمن في دعم سيادة الدول واستقلالها، وليس في إدارة صراعات إقليمية لصالح قوى خارجية.
على الولايات المتحدة أن تضع حداً لازدواجية نفوذها مع إيران في الشرق الأوسط، وتعمل بجدية على بناء سياسة جديدة تتماشى مع تطلعات شعوب المنطقة. بدون هذا الحسم، ستظل المنطقة عالقة في دوامة من الصراعات التي لن تخدم سوى الأطراف المتطرفة والمستفيدين من الفوضى.