د. قاسم حسين صالح
قضيت ثلاثة عقود أدرّس مادة الصحة النفسية في جامعات عراقية وعربية، وترأست مراكز للعلاج النفسي، وشاركت في مؤتمرات دولية،والّفت كتبا في الأضطرابات النفسية. اقول هذا كي يؤخذ كلامي على محمل الجد،فإن وجدوا فيما أدّعيه تهمة مخلة بالعقل او طعنا بالشرف السياسي، فلهم الحق في إحالتي الى القضاء،فان قضت المحكمة بأدانتي فلها أن تودعني السجن، وإن قضت بإدانتهم فعليها ان توصي بإحالتهم الى مصحة نفسية،بعد أن تعمد الى تشكيل لجنة من اطباء واخصائيين نفسيين لهم سمعة دولية محترمة،تؤكد لها في التشخيص إنهم مصابون بواحدة أو أكثر من الامراض النفسية الواردة لاحقا،نصوغها بما يشبه لائحة مقدمة الى نقابة المحامين،ونقابة الصحفيين،وممثل الأمم المتحدة في العراق.
ما تتضمنه هذه اللائحة لاعلاقة له بالسياسة بل تنطلق من مسؤوليتنا العلمية والأخلاقية في تجنيب أربعين مليون عراقي المزيد من الضحايا البشرية والكوارث الاجتماعية والاخلاقية المتمثلة بتهجير أكثر من ثلاثة ملايين عراقي من مدنهم وقراهم، وهجرة الآف الشباب خارج الوطن،وتزايد حالات الجريمة والطلاق والانتحار والعنف المجتمعي،والاغتراب والضياع النفسي والخوف من المستقبل.
ومع إن قادة العملية السياسية العراقية تتوافر في معظمهم إضطرابات نفسية متعددة ،فاننا سنركز هنا على اخطرها.
اولا: الأدمان على انتاج الأزمات
اثبتت الأحداث التي شهدها العراق عبر السنوات العشرين الآخيرة إن العقل السياسي العراقي منتج للأزمات،وانه غير قادر على حل المشكلات.
وكما نوصي نحن المعنيين بالامور النفسية بوضع المدمن على المخدرات بمصحة نفسية حفاظاً على سلامته وسلامة الآخرين،فاننا نتهم العقل السياسي العراقي المسؤول في السلطة بأنه صار مدمناً على إنتاج الازمات.
ونوضح أن الادمان على الازمات كالادمان على المخدرات..ففي الحالتين يحدث للعمليات العقلية في الدماغ برمجة ثابتة تجعله يعتاد على تفكير نمطي محدد يجبره على تكراره.وبما ان المشكلات الاجتماعية تتطلب حلولا مبتكرة وان العقل السياسي في السلطة انشغل بإنتاج الأزمات،عليه فان بقاءهم فيها سيلحق المزيد من الأذى بالناس بما فيها إستهداف حياتهم وامنهم.
ثانيا: الحول العقلي
مصطلح (الحول العقلي) ..نحن ابتكرناه من متابعتنا للعملية السياسية في العراق. ونعني به إن المصاب باحولال العين يرى الواحد اثنين ويصر ويعاند ان ما يراه حقيقة مطلقة،وكذا السياسي العراقي ،فهو يرى انه على حق مطلق والآخر على باطل مطلق..وهذا ناجم عن تعصب طائفي او اثني.فعِلّة المتعصب السيكولوجية هي إنه يصنّف عالمه الاجتماعي الى مجموعتين:
(نحن) و (هم)..يضفي على جماعته الصفات الإيجابية ويغض الطرف عما فيها من سلبيات،وينسب للجماعة الاخرى الصفات السلبية ويغمض عينه عما فيها من ايجابيات.
ولقد أثبتت الأحداث ان السياسي العراقي في السلطة مصاب بـ(حول عقلي).
والمؤذي في هذا المرض او العقدة النفسية ،انه في حالة حصول خلاف أو نـزاع بين جماعته والجماعة الأخرى فإنه يحّمل الجماعة الأخرى مسؤولية ما حدث من أذى أو أضرار ويبرِّئ جماعته منها حتى لو كانت شريكاً بنصيب أكبر في أسباب ما حدث.وطبيعي إن شخصا بهذه الصفة المرضية لا يصلح لأن يكون قائدا لمجتمع تتنوع فيه الأديان والمذاهب والقوميات..ولكنها صلحت في العراق!
ثالثا: البرانويا
ثبت للمختصين بعلم النفس المرضي العقل السياسي في الزعامات العراقية مصاب بالبرانويا.. التي تعني ،بمصطلحاتنا ، إسلوبا او شكلا مضطربا من التفكير يسيطر عليه نوع شديد وغير منطقي ودائم من الشك وعدم الثقة بالآخر، ونزعة دائمة نحو تفسير أفعال الآخرين على انها تهديد مقصود.
وقد حددت منظمة الصحة العالمية أعراض إضطراب الشخصية البارانوية بسبعة نوجزها بالآتي:
1- نزعة لحمل ضغينة مستديمة،ورفض التسامح عن الإهانات او الحيف او الاستخفاف.
2- حساسية مفرطة للنكسات او العقبات،والصد والرفض.
3- شك ونزعة شاملة نحو تشويه الخبرة تتضمن سوء الفهم للأفعال الحيادية وتفسيرها على انها ازدراء او عداء.
4- استعداد للقتال او المقاومة والأصرار بعناد على التمسك بحقوقه الشخصية بغض النظر عن الموقف العملي.
5-نزعة مفرطة في الاحساس بأهمية الذات، تصبح معها( الذات )الاتجاه المرجعي الدائم له.
6- انشغال لا مبرر له بتفسير الاحداث المحيطة به بأنها تآمر موجه ضده.
7- استفهامات لا مبرر لها بخصوص الطرف الآخر الذي تربطه به علاقة شراكة.
ومع إن منظمة الصحة العالمية أشارت الى إن توافر ثلاثة أعراض منها في الفرد تكفي ليكون مصابا بهذا الاضطراب،فان واقع الحال يشير الى إن قادة العملية السياسية في العراق تنطبق عليهم معظم هذه الاعراض،أخطرها إنهم لم يتمكنوا من التخلص بالشك المرضي بالآخر عبر عشرين سنة من الشراكة السياسية..بل انهم أشاعوها بين أتباعهم لدرجة إن عددا من أحياء بغداد هاجمت بعضها البعض بالصواريخ..وإن هذه البارنويا بالذات كانت السبب الرئيس في احتراب سنوات (2006 – 2008 ) الذي راح ضحيته مئات الالاف من الابرياء،وإن خطرها ما يزال قائماً ما دام العقل السياسي ملوثاً بها.
رابعا: الدوغماتية
يفيد التحليل السيكولوجي للفكر السياسي ان العقل السياسي العراقي مصاب بالدوغماتية التي تعني الجمود العقائدي او الانغلاق الفكري الذي يفضي الى التطرف الديني او المذهبي او القومي او القبلي. ولأن علماء النفس والاجتماع وجدوا ان الدوغماتية هي أحد أهم وأخطر أسباب الأزمات السياسية والاجتماعية،وإنها السبب الرئيس للخلافات السياسية التي غالبا ما تنتهي بحروب، وإنها (مرض)خالقي الأزمات من القادة السياسيين، عليه فإن قادة العملية السياسية العراقية لن يستطيعوا أن يتحرروا فكريا من معتقدات ثبت خطؤها،ولن يستطيعوا أن يجدوا حلا او مخرجا لما هم فيه،بل إنهم سيعرضون ملايين الناس الى مزيد من الأذى،فضلا عن إنهم أشاعوا التفكير الخرافي بين جماهيرهم واشغلوهم بخلافات الماضي التي أشاعت الكراهية والقتل بدوافع ناجمة عن معتقدات سخيفة،وأوصلوا غالبية مؤثرة الى الشعور باليأس من إصلاح الحال.بعد ان تاكد للجماهير العراقية ان من يستفرد بالسطة والثروة والقوة لا يمكن له ان يبني دوله لانه يكون مسكونا بالخوف من ان تكون نهايته شبيهة بمن سبقوه!

