إبراهيم بدوي
اليوم الوطني لسلطنة عُمان يمرُّ في داخلي كأنَّني أفتح صندوقًا قديمًا تراكمت فيه تفاصيل تسع عشرة سنَة عشتُها على هذه الأرض الطيَّبة، هذه الأرض الَّتي علَّمتني أنَّ الانتماء لا يحتاج أوراقًا، لكنَّه يقاس بما تتركه السنوات في القلب من أثَر حقيقي. في الأمس القريب كنتُ مُقيمًا يحاول فَهْمَ هذا اليوم من بعيد، ثم وجدتُ نَفْسي مع الوقت أعيشه كما يعيشه أهل المكان؛ لأنَّ المشاهد الَّتي تتكرر تمتلك قدرة غريبة على الدخول إلى الذاكرة دُونَ استئذان. فأعلام ترفرف بثقة فوق البيوت، وأناشيد تملأ الصباح بحضور دافئ، ووجوه تفرح بكامل صدقها، وتأتي المسيرات الَّتي تحمل الولاء والعرفان من شَعب لقادته، إيمانًا منه بأنَّهم يسعون إلى رفعته ورفعة وطنهم قَبل أيِّ شيء، فتضيف طبقة من المعنى تجعل هذا اليوم أكبر من مناسبة رسميَّة.. ومع الزمن صار هذا اليوم جزءًا من حكايتي الشخصيَّة هنا، حكايتي مع بلد يفتح قلبه للناس ويترك في الروح مساحة لا تُنسى.
تتسع الصورة أكثر حين أتأمل كيف تشكَّلت النهضة العُمانيَّة الحديثة، وكيف تحوَّلت قِيَمها إلى ملامح يوميَّة يلمسها كُلُّ مَن عاش هنا. فالمشروع الَّذي بدأه الراحل السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ، وضع أساسًا راسخًا لبناء الإنسان، وفتح أمام الناس آفاقًا واسعة للتعلم والتطور، وأسَّس دولة تقوم على التنظيم والاتزان. لقد كنتُ ألاحظ احترام العُمانيين الكبير لتلك المرحلة في أحاديثهم، وفي طريقة تعاملهم مع إرثها الكبير، ثم جاءت مرحلة التجديد بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ، مرحلة تضيف إلى النهضة روحًا جديدة تناسب زمنًا مختلفًا، وتعطي الناس ثقة أعمق في مستقبل وطنهم.. ومع متابعة هذا الامتداد الطبيعي بَيْنَ القائد المؤسِّس والقائد المُجدِّد، يتضح أنَّ النهضة لم تتوقف لحظة، فتجدُّد المعنى القديم بروح تناسب زمنًا جديدًا يزداد تطوُّرًا واتساعًا، ما كوَّن داخلي قناعة مفادها بأنَّ هذا البلد يعرف كيف يمضي إلى الأمام دون أن يتخلى عن جذوره، ويعرف كيف يحافظ على صوته الخاص وسط عالم سريع الحركة، لذا اكتسبت علاقتي بهذه البلاد عمقًا إضافيًّا مع إدراكي لهذا التوازن الحكيم بَيْنَ الماضي والحاضر.
ومع مرور الأعوام بدأتُ ألاحظ أنَّ هذا اليوم يتحول داخل ذاكرتي إلى مجموعة لحظات صغيرة تراكمت دون ترتيب مسبق، أستعيد مواقف عابرة رأيتها في أيَّام عاديَّة، عَلَم مرفوع فوق بيت قديم في شارع هادئ، أصوات أطفال يرددون نشيدًا وكنتُ أسمعها من بعيد دون أن أتوقع أنَّها ستثبت في الذاكرة، وصاحب متجر يضع صورة للراحل السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ إلى جوار صورة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في مشهد يعكس عُمق العلاقة بَيْنَ الناس وقادتهم. ولعلَّ هذه التفاصيل هي مَن صنعت هذا الإحساس الداخلي الَّذي يعود كُلَّما اقترب اليوم الوطني لسلطنة عمان ويحمل معه فهمًا أعمق لِما يعنيه هذا الاحتفال لأبناء عُمان.. ومع الوقت بدأت أشعر بأنَّني أمشي داخل هذا الفخر الوطني دون بحث أو انتظار، وكأنَّ الذكريات منحتني مساحة هادئة داخل شعور يخصُّ هذا البلد وأهله الطيِّبين.
ومع كُلِّ عام يمرُّ، أكتشف أنَّ العلاقة الَّتي بنتها عُمان في داخلي لم تولد من احتفال فقط، وإنَّما نشأت من زمن طويل ظلَّ ينساب دون أن ألتفتَ إليه، تشكَّلت من خيوط بسيطة امتدَّت على مدى زمن طويل، طريق أمشيه كُلَّ يوم، صوت مؤذن أعرف نبرته، رائحة مطر عُمان المميز، وملامح ناس صاروا قريبين منِّي دون أن يجمعنا دم أو اسم عائلة، هذه العناصر صنعت مساحة لها طابعها الخاص داخل وجداني، مساحة تحمل امتنانًا للطيبة الفطريَّة والأدب الجَم الموجود في جينات هذا الشَّعب، حيثُ لن تجدَ مثله عند غيره. باختصار، هي مساحة تكبر كُلَّما اقترب اليوم الوطني لسلطنة عُمان، وتُعِيد ترتيب الشعور بداخلي بطريقة لا تناقض جذوري الأولى ولا تبدل محبَّتي لبلدي الأُم، لكنَّها تمنحني امتنانًا جديدًا لهذه البلاد. ومع مرور الأعوام تَراكَم هذا الشعور حتَّى أصبح لهذا المكان موقع ثابت في داخلي، موقع لا يزيحه أيُّ شعور آخر، موقع يظلُّ حاضرًا كُلَّما رفرف العَلَم وعلَتِ الأناشيد، وسيظلُّ الاحتفال يتواصل ولو ببضع كلمات أعبِّر بها عن مقدار حُبِّي واحترامي لبلدي الثاني عُمان ولأهلها الطيِّبين.
إبراهيم بدوي

