مقالات

عمق: أبجديات الذوق في حياتنا العامة. ترف أم ضرورة؟

 
 
د. رجب بن علي العويسي
 
ينطلق تساؤلنا حول الموضوع من فرضية ما يمكن أن تؤسسه فضيلة الذوق العام والمزاج الراقي من قيمة تنافسية في حياة المجتمعات، إذ كلما كان المزاج والذوق العام فيها يتسم بالديمومية والتنظيم والعمق والتأصيل والثبات والاستقرار في أخلاقيات المواطن وقواعد السلوك اليومي المتبعة، كلما كان المجتمع أقدر على تحقيق التناغم بين أبنائه، والتعايش بين مختلف فئاته، والتقارب بين سياساته وممارساته واستراتيجياته وخططه، والتسامي في مطالبه ومتطلباته والرقي في حصوله على حقوقه بأسلوب تعلوه حكمة التصرف وحس المسؤولية.
على أن شمولية مفردة الذوق واتساعها وعمقها، تضع المواطن أمام فرص أكبر في انتقاء البدائل، واختيار الأدوات وضبط مسارات العمل وتقنين الممارسة الناتجة وتوجيه بوصلة العمل لصالح منصات الذوق العام، وعندها سيشعر المواطن بمسؤوليته في كل المواقف اليومية كالقيادة على الطريق، وبأن هذه المركبة إنما تستهدف تقديم خدماتها له، والطرق وسيلة للوصول إلى تحقيق الغايات وتقريب التواصل، وفرصة لتعميق مبادئ الهدوء، وسلوك مسلك التأني، والسمو في الممارسة، واحترام الغير، وفسح المجال للحالات الطارئة، وعدم التجاوز إلا عند انتفاء المنع، وعدم ايذاء الآخرين برمي المهملات على الطريق أثناء القيادة، أو البصاق على الطريق، أو السرعة الهالكة، والاستثمار في الأماكن السياحية والمحافظة عليها ومنع الاعتداء على المسطحات الخضراء، وازالة النفايات من أماكن الاستجمام، ووضعها في الأماكن المخصصة، والمحافظة على بيئتها الحيوية كأشجارها وزهورها، وبيئتها الجمالية وأخلاقيات الإنسان ذاته بما يفرضه عليها من تعبيرات تراعي الذوق العام، ومنهجيات في التعامل تعكس دماثة الخلق ورقي العاطفة، وتعميق جماليات الذوق العام ليصبح سلوكا رديفا للمواطن ملتصقا بكل محطات التطوير والتجديد ليشمل تعاملاته اليومية مع الناس أو المؤسسات، وتفاعلهم مع بعضهم في الاسواق، كعدم الوقوف في الأماكن المخصصة لذوي الإعاقة أو أمام مداخل المنازل، أو قطع الطريق لإقامة احتفالية أو مناسبة زواج، أو الوقوف بطريقة قد تسبب عرقلة السير أو حجز مركبات أخرى، والقيم المرتبطة بسلوك الفرد اليومي في البيع والشراء، كالحرص على الهدوء في التعامل، وأسلوب الجدال الذي يضمن ارتياح الطرفين وقبولهما، ومراعاة نفسيات الآخرين وحرمات المنازل والبيوت بمنع الازعاج أو تشغيل مكبرات الصوت وغيرها من المواقف والممارسات اليومية المريبة التي تتنافى وأخلاقيات الذوق العام.
إن حضور فقه الذوق، عنوان لثقافة المجتمع ورقي أفراده، وحرصهم على وطنهم وشعورهم بقيمته في حياتهم، وإن إدارة المشاعر مرحلة مهمة في حياة المجتمعات ورقيها الفكري وأنموذجا الذي تعتمد عليه في فهم المسؤوليات، وعندما تضع له أطر العمل، والمبادئ والأخلاقيات، وترصد لها الأدوات لتقويتها وتعزيزيها، وتضع في أولويات مؤسسات العلم والتعليم والثقافة والإعلام والتربية لديها، تقوية هذا الجانب وتعميق قيمة الشعور به، عندها تتأكد الممارسة عالية الجودة، والسلوك الايجابي الذي يمنح الحياة جمالا وتفاؤلا بقادم جميل، وتصبح الممارسات مضبوطة بقيم الشعور بالآخر، والاحترام لثقافته ونوعه وجنسه وخصوصيته، فيقوى المزاج الراقي وتسمو ثقافة الذوق، كما أن إدارة المشاعر وضبط الانفعاليات محطات تجريبية لمراقبة مدى التقدم الحاصل في فقه الذوق وقدرته على الوصول إلى سقف التوقعات، بما تتيحه من حرية الاختيار لدى الآخر، وعدم مصادرة الفكر، ومراعاة نفسيات الآخرين كالأطفال أو الأبناء أو الأصدقاء والجيران والزملاء في المهنة، وتأكيد مفاهيم الحوار والتواصل وأسلوب الاقناع الهادف بالحجة والبينة، وعدم التدخل في شؤون الغير وخصوصياته، أو محاولة التأثير في مزاجه بالضغط عليه، أو تجريحه، أو التقليل من حجم ما أنجزه من أعمال، أو التعامل بسخرية مع هواياته، أو التقليل من قدراته واستعداداته ، فإن الثقافة السلبية والدعوات المحبطة نحو تغييب الذوق والمزاج العام في المطالبة بالحقوق والسؤال عنها، أو التعدٍي على حقوق الأشخاص أو المؤسسات أو غيرها، كنوع من المطالبة بالحقوق، والتعاطي مع تصريحات المسؤولين ومتخذي القرار بنوع من السخرية والاستهزاء، والتناقل لبعض العبارات والصور والرموز التعبيرية والكاريكاتيرية التي يتم تداولها على سبيل التهكم، أو ما قد يحصل من ترويج للإشاعات والتقّول أو التجني على الأفراد والمؤسسات، أو التناقل غير الصحيح لبعض الصور في مواقف مختلف نهائيا عن أماكن وجودها، ونسبتها إلى أشخاص أو أحداث أو أماكن معينة، بدون مراعاة لمشاعر الآخرين وأذواقهم، أو محاولة تغيير الهويات، والتقليد لبعض الممارسات، أو ما قد يظهر من النظرة الضيقة لبعض الفنون الغنائية أو الهوايات، وإدخالها في دوائر التحريم، فيتجاوز الحديث عنها حالة المشاعر الصادقة، وسلوك الاحترام المتبادل، مواقف سالبة في وجه الذوق تستدعي تكاتف الجهود وتفاعل أطر العمل نحو التخلص منها، وإبرازها معايير الذوق العام وترويجها واستنطاقها في القيم والأخلاقيات والقواعد السلوكية التي تؤسس للشخصية العمانية.
عليه فإن جماليات الذوق العام وأبجدياته تتجاوز ذلك كله لتؤكد الحاجة إلى وجودها في كل مفردات الاتصال والتواصل ومنصات الاحتواء والاكثار منها في الخطاب الرسمي بين المؤسسات، وتأكيد حضورها في الخطاب الاعلامي، وعلى مستوى الدراسات التحليلية والنقدية والتصورات والمبررات التي تساق فيها كأدلة للنفي أو الاثبات أو في المناظرات والمقارنات والجلسات، كونها بمثابة إطار تنطلق منه كل خطوات العمل القادمة وتتجه إليه بوصلة النجاح في إدارة هذا الملف في سلوك المواطن ومواقفه اليومية، فالعمل الذي يراعي مبادئ الذوق وجماليات المزاج العام سيكون له أثره الايجابي في حياة المجتمع وتقدم أفراده، وحرص الجميع على النهوض بمجتمعهم كل في مجال اختصاصه، أو محور اهتمامه، ولا يتنافى الاهتمام بالذوق في الخطاب، وحس الكلمة ودقة المعلومة، مع مبدأ الجودة في العمل والكفاءة في الممارسة بل سيضيف لها نكهات متعددة وأذواق جميلة منتقاه لتشكل جزءا من هذا المزيج المتناغم الذي تتكامل فيه المشاعر والأحاسيس مع قيمة الفكرة ودقة العبارة ومصداقية المعلومة وموضوعيتها، إذ تبني في المجتمعيات حياة متجددة، وتتيح لها فرص متنوعة في الاستثمار للموارد والامكانيات والطاقات، وزيادة مناخات مشتركات العمل ومعززات الوحدة ومؤصلات التعاون والتعارف والثقة بين أبناء المجتمع، بل تظل مشاعر الود ظاهرة، وقيم الخير باسطة أيديها معطاءه تسع الجميع ، ودماثة الخلق تفتح أبوابها للآخر، مادة له يد السلام والتواصل والاخاء، وتصبح المسؤولية في ظل جماليات الذوق قائمة على الشراكة، والبحث عن القاسم المشرك الإنساني باعتباره الطريق الأنسب لزيادة السلام الذاتي وتعميق التصالح مع الآخر والاعتراف به، ويصبح لتعدد وجهات النظر وحرية التعبير، ومنح فرص أكبر للابتكار في الوسائل والاختيار في الاساليب، مدخلات تبني للمجتمع مستويات الوعي، وثقافة المهنية في التعاطي مع المنجز الوطني. إن التكامل القائم على التعايش والوئام والتسامح بين أبناء المجتمع الواحد، وشعور الآخر بمسؤوليته نحو مجتمعه، لا يمكن أن تنمو بصورة اعتيادية إلا في ظل منح فرص الذوق العام مساحة أكبر في قاموس التعامل ومنصات التواصل، وتعزيز انتشارها بين فئات المجتمع. فتبرز هذه القواعد السلوكية والأخلاقية في الذوق والمزاج العام وحسن الخلق، التزامات تمشي على الأرض تحفظ الود وترعى العهد، وتصون العشرة، وتحترم المبدأ، في تعدد المواقف التي يعيشها الفرد مع نفسه وفي مجتمعه، وما يترتب عليها من سلوكيات وقناعات وأفكار وممارسات، وما يظهر خلالها من تفاعلات تستدعي مناخات أقوى تراعي الذوق العام، وتحسن الظن بالآخر.
اننا نستلهم من عاداتنا العمانية الأصلية في المصافحة والسلام وعادة المناشدة وإكرام الضيف واحترام السائح أو الزائر، وتقدير الآخر والسعي لقضاء حوائجه، معايير وقواعد سلوكية داعمة لنهضتها في الأجيال القادمة، بحيث تؤسس الممارسة اليومية فرص اكبر للإبقاء على استمرارية هذه العادات الذوقية والارتقاء بها والاعلاء من شأنها والنظر إليها في كونها ممارسة أصيلة وسلوك مستدام يتعايش مع سلوك المواطن العماني، ويتناغم مع مفردات أصالته وهويته وقيمه التي يفاخر بها العالم ويتميز بها في العالمين، فيصبح الذوق أكبر من كونه عادة يمارسها الفرد حسب الحاجة أو يتعاطى معها عندما يشعر برقي المزاج، بل سلوك أصيل يتجاوز الوقتية والسطحية والظروف، فإن مسألة تأسيس معايير الذوق إنما هو حشد مجتمعي لجعل الذوق والمزاج العام صناعة مجتمعية، تنعكس آثارها على ممارسات المواطن في اساليب الحوار والتواصل الاجتماعي وردود الفعل حول الكثير من القضايا المطروحة في العالم الافتراضي، بحيث تتسم بالتوازن والمهنية والعمق والبساطة واحترام الرأي الآخر والتوافقية في وجهات النظر، وهو المعني الذي أكدته القيادة العمانية الحكيمة في مسألة منع مصادرة الفكر وتجريمه وتحريمه، إذ أن المصادرة لا تعبر عن أخلاقيات الانسان العماني والثقافة العمانية والسلف الصالح الذين كانوا ينشرون القيم والمبادئ والأخلاق وتعاليم الإسلام في ظل منهج التسامح وحرية الاخر في اختيار المذهب أو اعتناق المعتقد الذي يرتضيه، وهكذا يصبح الذوق العام سلوك عماني اصيل ومنهج إسلامي رفيع عزز في أبناء عمان روح التسامح وأصل فيهم قيم التعايش والشراكة والاخوة والاحتواء، ورسخ فيهم المسؤولية في تقديم العون للآخر ونصرته .
وعود على بدء، فإن ما اتخذته أو تتخذه مؤسسات الدولة المعنية من إجراءات، أو تسنه من تشريعات وقواعد للعمل أو تؤطره من أوامر وزواجر والتزامات ومبادئ ومواد في قوانين نافذة، تستهدف الاهتمام بالواجهات الجمالية الحضارية للمساكن والمنشآت والمباني العمانية الحديثة والقديمة، وما يتعلق بتزيين الشوارع وتنظيمها والاهتمام بنظافتها، والاعتناء بعمليات التشجير والمحافظة على المنظر العام، وإظهار الطابع الجمالي في المدن والقرى العمانية والمحافظة على الطابع العمراني الإسلامي في النقوش والرسم والزخرفة، ومنع الممارسات السلبية التي تؤدي إلى الاخلال بالبيئة وتشويهها، إنما هو تأكيد لمعايير الذوق العام ومساحة الذائقة الجمالية التي يتمتع بها الانسان العماني، والتي تأكدت في البساطة والاهتمام بالتراث وصون البيئة والحياة الفطرية والعناية بالنظافة العامة، وتكريس الجهود نحو اظهار الطابع الجمالي للواجهات البحرية والشواطئ، او الدورّات في مراكز المدن وغيرها، وهو التعبير الذي ينبغي أن يصل للعالم أجمع وأن يدركه أجيال اليوم في طريقة تعاطيهم مع ثقافة احترام المنجز، واضفاء طابع الذوقية في استخدامه، وتقدير الجهود الوطنية المبذولة بالشكل الذي يؤسس لقاعدة عريضة تنطلق منها الأجيال القادمة في احترام هذه القيم الحضارية الواعية، والاهتمام بالعادات والقيم الاصيلة التي تعبر عن ابجديات الذوق العام باعتبارها مرجعيات تحفظ حس التوازن في منظومة الذوق العام وتجلياتها في الممارسة الحياتية العمانية.