مقالات

عمق : الصحافة الوطنية وثقافة البرلمان

د. رجب بن علي العويسي

ينطلق تناولنا للموضوع من فرضية الدور الذي يمكن أن تؤديه الصحافة في تنمية الفكر البرلماني ونشر ثقافة البرلمان وتعزيز مسارات الوعي المجتمعي بها والتعريف بمفاهيم وقواعد العمل البرلماني، نظرا لطبيعة المساحة الصحفية التي تحتويها والتنوع الحاصل بها، سواء من حيث الأخبار الصحفية أو التقارير الصحفية أو الصور أو رصد المناشط البرلمانية والتعريف بالفعاليات والبرامج المتعلقة بسلوك البرلمان اليومي وتسليط الضوء على مشروعات القوانين ومقترحات الدراسات البرلمانية في تناول أو تطوير إحدى قطاعات التنمية الوطنية، في الجلسات العامة وجلسات اللجان التصويت على مشروع القوانين في مواد التباين في الجلسات المشتركة، مع ما يمكن أن تتسم به الصحافة ذاتها من ميزة الانتشار والاتساع والعمق في التحليل بما يسهم في حلحلة الكثير من الإشكاليات والقضايا التي ما زال نضج الوعي المجتمعي بشأنها غير كاف، خاصة في ظل ما تشهده الصحافة اليوم من تطور نوعي في بنيتها الهيكلية والتنظيمية ومحتواها الصحفي وانعكاسات ذلك على جودة المنتج الصحفي واستراتيجيات الأداء وما أتاحه فرص ظهور الصحافة الالكترونية الموازية جنبا إلى جنب مع الصحافة الورقية من زيادة الرجع الناتج من الصحافة وخلق مسارات اكبر للتوسع والانتشار وفورية النشر واستيعابها للكثير من المواد الإعلامية والتحليلات الداعمة لهذه المواد الإعلامية الصحية ذات العلاقة بالبرلمان كالمقالات ووجهات النظر والتحقيقات الصحفية والصفحات المتخصصة والملاحق الأخرى.
ويبقى جودة الرصد الصحفي الذي تقدمه الصحافة الحلقة الأقوى في كل المعالجات الصحفية، وهو مرهون بالتزامها جملة من المعايير الداعمة لمسار المادة الإعلامية البرلمانية التي نعتقد بأنها لها خصوصيتها وفلسفتها وطريقتها التي تتميز بها عن غيرها من الموضوعات المجتمعية الأخرى، نظرا للحساسية التي يتسم بها عمل البرلمان وارتباطه بشرائح مختلفة من المجتمع، والتوقعات الحكومية والأهلية منه، والذي يفترض أن ينعكس على الصورة التي تنتهجها الصحافة في تناولها للمادة البرلمانية، وبالتالي قدرتها على تحقيق معادلة التوازن في بنية المادة الإعلامية الصحفية نفسها وقدرتها على نقل صورة العمل البرلماني وتفسير حالة التفاعل والتناغم أو التباين الحاصلة فيه، وقدرتها على التحليل والدخول إلى عمق الحدث البرلماني، وربطه باهتمامات المواطن وأولوياته، ووضعه في صورة العمل النوعي الذي يستهدف المصلحة العليا، وبالتالي مشاهد التجديد وسيناريوهات التحول الذي يشهدها العمل البرلماني في ظل الصلاحيات التشريعية والرقابية الممنوحة لمجلس عمان (الدولة والشورى) والطموحات الوطنية التي يحققها على أرض الواقع والتي تضع الصحافة أمام مسؤولية التعاطي الواعي لها في تناول أخبار البرلمان، وانتقاء الموقع الذي تستحقه في صفحات الجرائد اليومية، وآلية اختيار العناوين وجاذبيتها وقدرتها على تحقيق منافسة القراءة لها، وتشويق دخول القارئ في سيناريوهاتها وتفاصيلها، يدخل في ذلك تناول مشروعات القوانين ذات العلاقة باهتمامات المواطن اليومية.
أما الجانب الآخر من المعادلة الصحفية فيعتمد على الصحفي ذاته وقدرته على امتلاك مهارات صياغة التقرير الصحفي البرلماني وتسليط الضوء على ما بين السطور، أو جوانب التباين الحاصلة في الآراء ووجهات النظر بين الأعضاء خاصة عند الحديث عن مواد مشروع القانون ليس بالتركيز على الأشخاص بقدر مواد التباين نفسها وما يعنيه هذا الاختلاف في وجهات النظر للمواطن والمصلحة العامة وكيف يستفيد منه القانون نفسه، وبالتالي فقه المعرفة المتقنة من قبل الصحفي بالبنية المعرفية المكتوبة عن البرلمان، ومستوى التشريق فيها والجاذبية لعباراتها وتسليط الضوء على الجوانب الغامضة منها أو التي بحاجة إلى مسوغات وتبريرات، على أن ما يدور في أروقة البرلمان من أنشطة وقواعد للعمل ومنصات للحوار ومسارات للتوافق والتباين وابداء الرأي بقوة الدليل، وحكمة التعاطي مع قرار الأغلبية المطلقة، أو بعض التأثير الذي يمارسه بعض الأعضاء – مجلس الشورى مثلا- على بعض المشروعات المعروضة على جلسات المجلس، وما تعيشه الجلسات من نقاشات وحوارات، في ظل الاستحقاق البرلماني الذي اعتمده المشرع العماني في معالجة التباين في بعض مواد مشروع القانون وآليات العمل المعتمدة وغيرها من الإجراءات البرلمانية، يعتبر مادة دسمة للصحفي في إعادة هندسة أدائه وصقل قدراته وتنمية حدس التأمل ومنطق التفكير لديه، والعمق في حواراته وإظهار القوة في بنية المادة الصحفية التي يقدمها للجريدة أو الصحيف، وما تتطلبه من تحليل ورصد وقراءة واعية ودقيقة لما بين السطور وفهم آليات العمل واستقراء ما يفكر فيه المواطن وسقف توقعاته وما يرجوه من هذه الجلسات العلنية في أدوار الانعقاد بمجلسي الدولة والشورى، بما يضع الكاتب أو الصحفي ذاته أمام تحد عليه أن يبرز خلاله مواهبه وقدراته ومهاراته ويصنع من تلك الخطوط العريضة مادة إعلامية ذات قيمة مضافة في محتواها، وتمتلك حس التعاطي معها من قبل المواطن المتابع لأعمال المجلسين.
وبالتالي دور الصحافة في التعمق في مكونات هذه الثقافة وأولوياتها وفلسفة عملها ومحطات نجاحها في الواقع في ظل ما تؤديه من دور محوري على صعيد السياسة الداخلية عبر صياغة سياسات وطنية اكثر عمقا ونضجا واتساعا وشمولية وتكاملا ووعيا بالواقع وحدسا بالمستقبل، أو على مستوى الدبلوماسية البرلمانية وتوثيق شراكات التعاون في مختلف المجالات جنبا إلى جنب مع الدبلوماسية السياسة العمانية، فإن التطور الحاصل في العمل البرلماني والطموح المجتمعي منه وطبيعة المهام التي يتعامل معها في ظل الصلاحيات التشريعية والرقابية، جعل مسؤولية نشر ثقافة البرلمان والتعريف بأنشطته، والصلاحيات التي يمارسها، وكيفية ممارسة هذه الصلاحيات، والقواعد التي يرتكز إليها في تنفيذ اختصاصاته، والمعطيات التي يستدركها في قراءته لمشروعات القوانين، والموجهات التي يرتكز عليها في صياغة السياسات التشريعية والقانونية، وإعادة انتاج القوانين بطريقة تتناغم مع طبيعة التحول المجتمعي والتطوير الحاصل في أنشطة القطاعات الإنتاجية والجهاز الإداري للدولة، وأن تعمل على تأطير مفهوم الثقافة البرلمانية في منهجية عملها، وطريقة تناول الخطاب البرلماني، والتسويق النوعي له بالشكل الذي يضمن كفاءته ورصانته وقدرته على الدخول في ثقافة المواطن والثبات في اهتماماته والنضوج الفكري المتحقق للبرلمان في وعيه وثقافته اليومية، بمعنى أن يكون الرصد الصحفي لأنشطة البرلمان، منطلقا لفهم دور البرلمان والتعرف على آلياته، والاستراتيجيات والأدوات البرلمانية الرقابية التي يستخدمها، ومستوى الكفاءة الإنتاجية التي يقدمها، بحيث يصبح حضور البرلمان في الصحافة تأكيدا على تواجده المستمر في برامج التنمية الوطنية وخطوط تنشيط الإنتاج التي تبدأ من البرلمان عبر مشروعات القوانين واقتراح السياسات التشريعية للمشروعات التنموية، بما يضمن فاعليتها الإنتاجية وقدرتها على الاستمرارية ووضوح نواتجها على الواقع الاجتماعي، وكلما أبرزت الصحافة هذه الموجهات بطريقة أكثر ابتكارية تتناسب مع طبيعة المرحلة، كلما عزز ذلك من قوة البرلمان في الصورة الذهنية للمواطن فيصبح محل تساؤلات ونقاشات وحوارات في لقاءات العمل والأسرة وغيرها.
إننا نراهن على دور الصحافة الوطنية بدون استثناء – وهي قادرة على كسب هذا الرهان – في البحث عن سيناريوهات عمل تأخذ في الحسبان كل هذه الموجهات التي باتت بحاجة لأن تبتكر الصحافة آليات لمعالجتها والتعامل معها بعمق بما يضمن قدرة الخبر الصحفي عن المنجز البرلماني على قبول المنافسة وحصوله على مستويات الرضا، مقارنة بغيره من الأخبار الرياضية أو غيرها، لضمان بقاء صفحات البرلمان حاضرة ليس في تعدد الوسائط التي تنشر أخباره، وحجم الصفحات الممنوحة للخبر البرلماني، بل وهو الأهم في قدرتها على التسويق الإعلامي للبرلمان ومسؤولياته واختصاصاته، ومدى تكوين قاعدة مجتمعية من المتابعين والقراء والمغردين لأنشطته. بالإضافة إلى امتلاكها قواعد البيانات والآليات والموجهات ومراكز التحليل والرصد الإعلامي البرلماني، والتحول في نقل أنشطة البرلمان من مجرد رصد أخبار بالفعاليات والأنشطة والجلسات والتعريف باللقاءات والزيارات التي يقوم بها مجلس عمان، إلى الدخول في الغايات الوطنية الكبرى من وجود المجلسين، في قراءتها وسبر أعماقها وتحليل المعطيات الحاصلة، وموقع البرلمان من القضايا المجتمعية ودوره في حلها، والثقة في قدرته على صياغة لحن جديد للتنمية في ظل صلاحياته التشريعية والرقابية، وما يضمه من تنوع الخبرات والكفاءات الوطنية، وما يتسم به من دعم المواطن نفسه وتفاعله مع خاصة في المجالس المنتخبة (مجلس الشورى) وحرصه على أن يكون حاضرا معه في كل محطات العمل القادمة، ولما كان الامر كذلك فهو مرشح لاستحقاقات قادمة ومنافسات أقوى تضمن لهذه المجالس الاستمرارية في تحقيق التميز والتكامل في الأداء الوطني، فإننا في المقابل نقرأ في جهود مجلس عمان عموما ومجلس الدولة على وجه الخصوص في تعزيز جسور التواصل مع القائمين على الاعلام الوطني عامة والصحافة الوطنية بشكل خاص، واللقاءات الدورية والحوارات وحلقات النقاش التي ينفذها مع رؤساء تحرير الصحف المحلية وممثليها، وتجاهه نحو تبني استراتيجية تدريب بعيدة المدى للتدريب الإعلامي البرلماني لبعض الصحفيين من المؤسسات الصحفية، واقتراح تحديد ممثلين عن المؤسسات الصحفية في نقل أو التعاطي مع أنشطة المجلس، إنما يستهدف بناء قدرات صحفية وطنية تمتلك مهارات الرصد البرلماني وتتقن مرتكزاته وتعي أولوياته وترصد نواتجه بطريقة تضمن له القوة والاحتواء والتأثير.
إنها محطات سوف تؤسس لمسارات أكثر نضجا في تأصيل الثقافة البرلمانية، لتبقى حاضرة في سلوك المواطن وقناعاته واهتماماته، وهو على موعد مع فترة انتخابية قادمة لمجلس الشورى، في اختيار من يمثله وفق قاعدة انتخابية واعية عنوانها الاختيار الواعي من بين العناصر المترشحة لعضوية المجلس في الولايات لاختيار الأصلح منها، ويبقى دور الصحافة حاضرا فيما تقدمه للمواطن من تفسيرات وتحليلات وتشخيص مستمر لنواتج الفترات السابقة وما تم إنجازه والأجندة القادمة للمجلس وفق مساحات حوارية صحفية مستمرة تضمن تأصيل الوعي وتأطيره، وقدرة المادة الصحفية المقدمة على مختلف اشكالها، في حشد اهتمام المواطن بهذه الانتخابات والمشاركة الواعية فيها.