مقالات

عمق : عامنا الجديد وأحلام العصافير

د. رجب بن علي العويسي

اقترب رحيل عام 2018م وعسى أن ترحل معه أوجاع المرض، وأنين الجرحى، وحنين الثكلى، وبكاء الأيتام، وعسى أن تغيب معه صفارات الإنذار وقاذفات الموت، ولهيب الأحقاد، وراجمات المساجد والبيوت، عسى أن تنتهي معه معاناة الشعوب، وتتعافى برحيله الأوطان، وعسى أن تعيد إلى صواب العالم أحلام العصافير الصغيرة وبراءة الطفولة اليتيمة التي حملت جريرة إثم الكبار وأحقادهم وفسادهم، بأي ذنب قتلت حتى فاجأتها قنابل الموت وهي متجهة إلى مدارس العلم أو محاضن التربية بل وهي تعالَج بالمستشفيات فلم ترحمها أيدي الغدر، فكم ولدت من مآسي أظلمت بها الأرض، وضاعت بها الأوطان، وقطع بها الموتى، وانطفت فيها قيم الإنسانية، وتسلل في جوانبها الوهن والتشرذم والضياع، عسى أن يكون رحيله خيرا لأمتي، لتلتئم فيها الجراح، وتعود فيها الحياة إلى طبيعتها الأولى عندما كان الناس يعيشون في أوطانهم آمنين مطمئنين كما كانت تعيش العصافير في عشها آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فأضاع الناس الفضل وكفروا بالنعمة وانحرفوا عن الجادة فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف والعياذ بالله.
وعسى أن يكون عام 2019م عاما جديدا، يحتكم لمعايير العقل، ويتعايش مع مسارات العمل الواعي، في ارتباطه بالجادة واستقامته على الطريق، وانشغاله بالسلام الذي يبنيه على أنقاظ ما خلفته قبح الأعمال وفساد الآمال وضعف البنيان، سلام يؤطر للحياة تحولها، ويبني للعصافير عشها، ويحقق للشعوب بصيرتها، ويمحو عنها كدرها وأحزانها وضيقها وقسوة حياتها ومعاناتها وآلامها، حاملا للحياة التجديد، وناشرا فيها أشرعة الود والحب والصفاء والنقاء، والتعايش والوئام، سلام النفس في طهرها وعقافها مع الآخر: الإنسان والوطن والحياة والكون، سلاما ينسيها مآسيها ويبشرها بقادم جميل، عام تعلوه وقفات العطاء وتُفتح فيه نوافذ الايجابية، وتنشد فيه الطفولة أناشيد الحياة، في ترانيمها العذبة، وبراءتها التي أضاعتها وحشية الكبار وجنون عظمة غرورهم، لتتحدث عن ظلم العالم لها، وإساءته لمسؤولياته نحوها، وتمرده عليها، وإجحافه في حقها، في واقع مرير يعكس صورة مشوهة لمستقبل الطفولة القادم، وتشويه ذاكرتها الجمالية، حول قناعاتها وانتمائها العربي وولائها لأوطانها ونظرتها للعالم الآخر من حولها.
ومع الفرص التي تيسرت للعالم وما توفر له من ثروات وما يضمه من خبرات وتجارب، وما حققه من إنجازات على صعيد الحضارة المادية، إلا أنه لم يستفد منها في تقويه قواعد العمل الداعمة لأمن الإنسان والبحث في العمق البشري، والذي يمكن أن يصبح في ظل مساحات الاعتراف بالآخر والمشترك القيمي معه، منطلق لتوجيه الجهود نحو تعزيز قوة التكامل ووحدة الصف في العمل العربي المشترك – إن كنا نسقط هذا الواقع على منظومتنا العربية -، لتجد الطفولة في ذلك معينه للوصول إلى الهدف ومنطلقها لبلوغ الغاية، وحمل أمانة هذا الارث الحضاري. إن حالة عدم الاستقرار الفكري التي يعيشها العالم في ظل انطفاء متعمد لمنظومة القيم والأخلاق، وابتعادها على تشكيل الهوية السياسية والعلاقات الدولية، وإدارة أحداث العالم بوعي وحكمة مع بقاء خيوط العمل معا، عززت من استمرارية هذه الصورة القاتمة، وشكلّت طبيعة المشهد العام للعام المنصرم، والانتهاك الصارخ لحقوق الانسان وسيادة الأوطان، وانتهاج بعض السياسات فرض سلطة الأمر الواقع على سيادة شعوب أخرى بالحصار أو العدوان، وحالة التشريد التي عاشتها بعض شعوب المنطقة، وحالة الانفلات السياسي والإعلامي، وضعف الارادة في الاصلاح وتدخل السياسة الغوغائية والاندفاعية، والأخطاء الكبرى التي عليهم تحملها في حق الشعوب والأوطان، شواهد على ما أوجدته القطبية الواحدة من تعميق منابع الخلاف ونثر بذور الشقاق، لتبقى هذه الشحنات السلبية والأحداث والمآسي المفتعلة، محطات يستلهم منها العالم الواعي، فرص التقييم والمراجعة ومنطلقات للتحسين وإعادة ترتيب الأوراق وطريقة إدارة الملفات وأولوياتها، وخلق مساحات أكبر لإعادة صياغة الواقع من جديد بشكل يقرأ في عامنا الجديد مساحات أكبر للحوار، وفرص أكبر للتنمية، يعيد فيها العالم الواعي بمسؤولياته والشعوب المدركة لقيمة أوطانها، بوصلة العمل وآلياته بحيث تضع أوطانها خطا أحمر لا يصح تجاوزها، وحدا فاصلا لا يقبل المساومة عليها أو التغرير بها تحت أي شعار أو توجه يستهدف أمنها واستقرارها، وفي الوقت نفسه أن يعزز هذه الأمر من وقوف العالم المعتدل في وجه هذه السياسات المحتكرة المتجهة بالعالم إلى هاوية التفكك والضياع والاستنزاف للموارد والثروات والدخول في مستنقع الحروب والدمار عبر مراهقات سياسية وقرارات تعسفية.
إن عالمنا المعاصر بحاجة إلى أن يقف على هذه المحطات جميعها، وبوظف منصات العطاء الإنساني المشرق في الابتكار والاختراع، لبناء فرص التقاء اكثر فاعلية تعزز من التعايش والوئام وخلق فرص اكبر للسلام والتنمية، وأن يقرأ في عامنا الجديد سبيله لنهضة كبرى للإعلام والسياسة الدولية تعيدها إلى صوابها وتضبط مسارها وترقى بأساليبها وآليات عملها، وفق أطر أخلاقية راقية وقواعد إنسانية نبيله لتعزيز الحوار وتعميق التواصل الثقافي والفكري، وعندها يستطيع الإنسان المعاصر أن يطور في ظل هذه المبادرات والتوجهات والالتزامات من أساليب عمله ويتعاطى مع المنجز البشري باعتباره منجزا عالميا للإنسان عليه ان يحترمه ويقدره ويمنحه حق الشعور به، ليتحول سلوكه إلى إنسان ملهم في عالم متغير يتعايش مع الاختلاف ويتسامى فوق الخلاف، فيقرأ في منظور التوازن منطلقات السلام العادل القائم على قيم الفضيلة والاخلاق وأطر القوة والنفاذ، ومبادئ الحق والعدل والمساواة، سلاما داخليا ينهض بالضمير ويسمو بالقيم ويؤمن بروح الإنسانية النبيلة، ويعلي من شأن الاخلاق والقيم السامية، سلام القوة والحكمة والإرادة والبصيرة والتنمية والانتاجية والأمن والعطاء، وما أحوج عالمنا اليوم لأن يلتمس معنى القوة والأخلاق في كل محطات البناء والتنمية الإنسانية، ليسير على الارض التزاما يؤسس للحب والتعاون والتعايش والتآلف والتكامل الإنساني، ليشد من عزيمة الإنسان في الحفاظ على منجزه الحضاري، في عالم واعد ومستقبل مشهود يحمل معه مفاتيح التغيير الإيجابي والتصحيح النابع من إرادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، فيصنع بذلك مسارات تحول في مسيرة الشعوب ونقلها من حالة التأزم التي سيطرت على قنوات الحوار والتواصل الانساني وبثت نوازع عدم الثقة ورسخت لسلوك الفتنة بين أبناء العالم وعززت من الفوقية والسلطوية وأصلت لنوازع الشهوانية والانغماس في المصالح الشخصية على حساب المصالح العامة، في ظل اتساع المفاهيم الغوغائية التي باتت تخترق صفوف هذا البيت (العربي والخليجي)، بتزيين مفاهيم العنصرية والحصار والفساد والإفساد والتربص والتهديد والعدوان والظلم، مما سيضع الأجيال أمام واقع مضطرب تتلقى فيه الدعوات بالإساءة ودعم الخلاف، وتقييد قيمة الاختلاف، ضاربة بالقيم عرض الحائط ماسحة لكل ينابيع المعرفة البشرية.
إننا نرجو أن يكون عام 2019م نافذة أمل لشعوب العالم المستضعفة، وللأوطان الموءودة بدون حق، التي أنكثت عهدها أيدى الظلم والخيانة، فضاعت في وهم المسميات والأسماء والمفاهيم والأعذار والشكليات بحجج مقاومة الفساد ومحاربة الارهاب ومقارعة الظلم، ليقرأ كل هذه المنغصات التي مرت بالعالم، فيغلق مسببات الفتنة ومرهقات التنمية، فيعيش العالم حياة القوة والأمن، ويتفوق على كل المقلقات وحالة الهزيمة النفسية والضعف والانكسار، ويبقى بناء صورة إيجابية للطفولة، مرهون بمدى وجود إرادة عالمية وجهدا أمميا مشتركا والتزاما أخلاقيا وثباتا وصدقا في السياسة الدولية، يضع حدا لحالة التخبط والعشوائية والهمجية التي تعيشها السياسة الدولية المشحونة، ويعيد إلى منظومة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي مكانتها وصلاحيتها القادرة على حقن الدما ودفع العدوان، وللسياسة الدولية العادلة احترامها في ظل التزام بالمبادئ العليا والأخلاق السامية وإلزام بالتطبيق العادل والمتكافئ والمتوازن للشرعية الدولية، بما يضمن للشعوب حقوقها واستحقاقاتها، وللتنمية حضورها في واقع العمل العالمي، وللإعلام إنسانيته وأخلاقياته ورسالته الساعية إلى نشر السلام والحب والوئام.
إن على العالم اليوم وهو يستقبل عام 2019م أن ينهض من سباته العميق، وضعفه المقيت، ليعيد توجيه بوصلة العمل لصالح الإنسان وتنمية الأوطان، وتحقيق التعايش والوئام وتعزيز حصون السلام وبناء منصات الامن بما يحفظ للأجيال القادمة حقوقها، وما اقترفته المراهقة السياسية والخذلان الدولي في ردع الظلم، من سلب كرامتها وانتهاك مواردها وثرواتها، ليقف وقفة واحدة في مواجهة تلك القوى التي باتت تستهدف كرامة إنسانه وأمنه، والانتهاك الصارخ لحقوقه وابتزازه في موارده وثرواته، وأن يدرك أن ما تعانيه طفولة العالم اليوم من وأد لنموها وقتل لإنسانيتها، وتدمير لطاقاتها وإقصاء لتقدمها، وانتزاع لثرواتها بسبب حروب طائشة وفتن حاقدة ومذهبيات مقيته وأفكار مسيئة، وإعلام يفتقر لأبسط القيم يمجد الموت ويؤمن بالقتل ويصدح به، إنما هو نتاج لضمور العدالة وضعف الثقة وانحراف عن الثبات والمصداقية في العمل، ويبقى دين على قيادات العالم لن تغفره الأجيال القادمة، وإثم يلاحق كل المتسببين في عرقلة البناء الإنساني، الساعين إلى نشر بذور الفرقة، الداعين إلى ضياع الأوطان وسلب حقوق الإنسان، ليعيش جيل الطفولة في بلدان منطقتنا العربية السليبة، تحت وطأة الفقر والتشريد وانتهاك الأعراض، وتجارة الطفال، ويتم الأبوين والجوع والمرض وتفشي الكوليرا وكؤوس الموت المذلة، فلا وطن يحتويهم أو ثروات تمنحهم مساحات العيش أو نماذج وقدوات تنتصر لهم، فالكل غارق في بحر الموت وفتوى الفساد وتضليل العقول وتأليب الضمائر على بعضها.
وليكن عامنا الجديد مساحات التقاء واعتراف بالأخطاء والتزام بخط سير واحد يعيد صياغة الواقع لتقوية أرصدة السلام وبناء منصات الأمان والاحتواء لأحلام العصافير وهي تشدو بلحن السلام بردا وسلاما، بوحا يحفظ الوداد ويسمو بالفضيلة ويؤصل لمعاني العيش، فسلام سلاما برائحة الجنان في أجنحة طير خضر، على تلكم العصافير التي غنت في حب الحياة والأوطان وجماليات الكون، فاغتالتها أيادي العبث والغدر ظلما وجورا وعدوانا، في حروب مفتعلة، وأهداف مضللة، ونوايا سيئة، لتلقي بأحلامهم في نعش الجوع والمرض وتابوت الموت وسكون المقابر.