راغب جابر
توحي الحركة السياسية في لبنان بأن هناك شيئاً ما على صعيد انتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ يقارب العام، لكن الصورة ليست واضحة تماماً بعد. الظاهر أن الحركة الفرنسية استطاعت أن تدفع باتجاه حركة عربية سعودية وقطرية بأشكال متعددة. لا داعي للعجلة في الحكم، لكن كل ذلك يطرح أسئلة وجيهة حول الديموقراطية اللبنانية وجدواها، ما دامت عاجزة عن إفراز السلطة كل مرة يشغر فيها موقع كبير في تراتبية هرم الدولة السياسي والإداري والعسكري والقضائي. في يوم ما سينتخب مجلس النواب اللبناني الذي هو نظرياً ممثل الشعب اللبناني مصدر السلطات رئيساً للجمهورية، وسيتحدث الرئيس الجديد ورئيس النواب وزعماء الكتل المتوافقة عن أعجوبة الديموقراطية اللبنانية وأهمية التوافق والوحدة الوطنية … إلى آخر المعزوفة نفسها التي تتكرر عند إنجاز أي استحقاق ولو عبر صفقات تبادل مصالح ومناصب. هذا سيكون الشكل، لكن الواقع أن لا مجلس النواب انتخب ولا الشعب شارك، هو تعيين تصنعه قوى دولية وإقليمية في سياق تقليد لبناني قديم يؤكد عدم قدرة أهله على حكمه. ليس لبنان بلد ديموقراطية حقيقية، وإن كان تاريخياً وُصف بأنه ديموقراطية نادرة في محيطه. وهو ليس بلد حريات بالمفهوم الحقيقي للحرية، وإن كان شكّل تاريخياً حالة مميزة في محيطه الواسع. تلك إشكالية في البلد الذي ينوء تحت عبء تاريخ من التناقضات البنيوية، معطوفة على تداخلات منظورة وغير منظورة، حتى أصبح كمريض القلب الذي يعاني أيضاً الضغط وقصور الكلى وضيق التنفس… ليس لبنان بلداً ديموقراطياً إذا كانت الديموقراطية تعني حكم الشعب. الشعب اللبناني محكوم وليس حاكماً على الإطلاق، ولا علاقة له بكل ما يجري في أروقة الحكم في البلد. يختار منقاداً ولا يحاسب، فقط يئن ويتوجع. تقضي الديموقراطية التي حدد الدستور اللبناني تطبيقها بانبثاق السلطة من الانتخابات العامة التي تنتج مجلساً نيابياً ممثلاً للشعب، ينتخب رئيساً للبلاد، ويعملان معاً على تشكيل حكومة هي السلطة التنفيذية التي تعمل تحت رقابة النواب، ممثلي الشعب الحاكم. لكن الشعب لا يدرك أنه فعلاً الحاكم، أو أنه يستطيع أن يكون الحاكم. إنه يفضل وضعية المحكوم فهي تعفيه من المسؤولية. الحكام مسؤولون عن الخراب أما هو فلا. والحقيقة أنه مسؤول قبلهم. لبنان ليس ديموقراطياً لأن ماكينة الديموقراطية لا تعمل فيه، كمن يحرث في الصخر، لا يولد مجلس نيابي إلا بعملية قيصرية ومتأخراً سنوات عن موعد الولادة، ولا يُنتخب رئيس للبلاد إلا بتدخل كل “دايات” العالم، حتى انتخابات البلديات والجمعيات والاتحادات الرياضية والمؤسسات الدينية والأمنية تتعثر ولاداتها فتمدد وتؤجل، حتى تشيخ وتموت وتفرغ مجالسها وتُدار بالتكليف والتغليف وسط عجز عقلي وأخلاقي تام عن حل أي عقدة.
ليس الأمر تجاهلاً للعقد المتحكّمة بالعملية الديموقراطية في لبنان من أبسط المستويات إلى أكبرها، لا سيما الأزمة المستعصية حالياً: انتخاب رئيس للجمهورية. الطبقة السياسية في لبنان لا تؤمن بالديموقراطية وتداول السلطة، لا على مستوى الأحزاب والمؤسسات ولا على مستوى سياسة الدولة. جل ما يجري من عمليات انتخابية هي تركيبات معروفة النتائج سلفاً، في الغالب تجرى في ظل اختراع مدمر سمّوه الديموقراطية التوافقية التي تلغي كلياً الديموقراطية الحقيقية التنافسية. الديموقراطية اللبنانية هي ديموقراطية عقيمة واستبدادية، يتمسك بها اللبنانيون كشعار رنان فيما معظمهم يعمل عكسها، أو لا يؤمن بها أصلاً، هي لا تمارَس كما يجب لا في الأحزاب ولا في المجالس التمثيلية، مع استثناءات قليلة في بعض الهياكل النقابية. إشكالية فهم الديموقراطية والإيمان بها فعلاً ما زالت تعيق تطبيقها، فضلاً عن طائفية النظام وأحزابه التي هي نقيض تام للديموقراطية. سيمر النظام الديموقراطي الذي كان محرك النهضة في البلدان التي طبقته على لبنان، من دون أن يترك أثراً كبيراً، فيما تبحث الفلسفة في العالم اليوم عن نظام جديد للحكم يلبي حاجات المجتمعات الما بعد حداثية. طبعاً سيكون لبنان قد عاد إلى مجتمع القبيلة.
المصدر: النهار العربي