عندما تنتهي.. الحرب

5

تغريدة الصباح- حسن حميد

ها أنا ذا، أواقف سير الأدباء والكتاب الذين عاشوا ثلاث حروب مهولة في النصف الأول من القرن العشرين الماضي، لأرى إن كانت الحروب تتشابه في أسبابها ومجرياتها ونتائجها وأحداثها، وحادثاتها وطعومها، وأنا لا أدري لماذا مضيت إلى قراءتها في يوميات هؤلاء الكتّاب، وأنا أعيش الحرب التي شنها الإسرائيليون على غزة والضفة الفلسطينية، بهذا الهول والبشاعة من فائض القوة، حتى شملت هذه الحرب كل ما هو فوق الأرض وتحتها.

همنغواي (1899-1961) عاش ثلاث حروب كجندي متطوع، وكمراسل حربي، وصحفي محترف، عاش الحرب العالمية الأولى سائقاً لسيارة إسعاف ولم يكن مقاتلاً في الميدان، لكنه رأى ما حدث في الميادين على الجبهة الإيطالية، فقال: (كنت أحمل الجثث، وأجمع الأشلاء مع الآخرين، وعلى نحو سريع جداً، حتى يمتلئ صندوق سيارة الإسعاف، وكدت أموت أكثر من مرة على الطرقات بسبب جرأتي على قيادة السيارة المجنونة بالسرعة المجنونة أيضاً، كنت أنادي نفسي، وبالصوت العالي، أرنست، أرنست كن هادئاً حتى تصل بالجثث سالمة إلى المشفى. لقد توقفت أكثر من مرة في الطرق، لكي أفتح باب سيارة الإسعاف لأطمئن، بأن جثث الجنود وأشلاءهم بخير، وسالمة، ولم يطغ بعضها على بعضها الآخر، مرة واحدة بكيت، وأنا أنظر للجثث، كان بعضها بلا رؤوس، بلا أذرع، بلا عيون، بلا أقدام، بكيت لكثرة ما أصابها من تشويه، ولكثرة الدماء التي أغرقتها، ولكثرة وجوه الاختلاف ما بين قطع الأشلاء، بعضها متفحم، وبعضها أبيض، وبعضها أصفر، وبعضها بلا لون، في تلك المرة لم أستطع الصعود إلى مقعد قيادة سيارة الإسعاف إلا بمساعدة الضابط الذي يرافق الجثث.

طبيب من غزة يكتب في يومياته: (كنت في الخارج، لقد غادرت المشفى لأنه ما عاد مشفى، ولعجزي عن فعل أي شيء للجرحى الصارخين المنادين الباكين، وجلست قرب الجدار الخارجي، وما كان بمقدوري أن أبتعد كثيرًا عن المشفى، لأنني خفت من أنني لن أستطيع العودة، جلست فجأة كما لو أنني رميت جسدي رميًا، فتعالى صوت رجل قربي، قال لي: أأنت جريح، قلت: لا، قال: أتحمل جريحًا، قلت: لا! وصمت، جلست، على أي شيء لا أدري، المهم أنني جلست، فأنا متعب، متعب جدًّا، فقد سمعت أعضاء جسدي كلها تقول لي، وبصوت واحد: آخ، كانت عتمة وكان ضباب يلفان مكان جلوسي، سألت الرجل القريب مني عن الوقت، فقال: ساعة ويطلع الفجر، صمت، وصمت، ثم قال: أرجوك، يا عم، ابتعد قليلاً أنت تجلس على جثة، قلت، وقد تنبهت حواسي كلها: جثة! قال: نعم، جثة! فعلاً، ها هي معالم جثة، كانت تحتي تمامًا؛ جثة لطفل، لعله في العاشرة، أو نحو ذلك، اعتذرت من الرجل، واعتذرت من الطفل الميت، لكنه لا يسمعني لأن الجثة بلا رأس، لهذا انحنيت على يده لأقبلها معتذرًا، لكنني لم أجدها، فالجثة بلا يد، قلت لنفسي انحنيت وانحنيت لأقبل قدمه، فانحنيت على قدمه، لكنني لم أجدها أيضاً، فالجثة بلا قدم، فبكيت وناجيت نفسي، وأنا أتذوق طعم ملوحة دمعي، يا إلهي، كيف سيمشي هذا الطفل على الصراط وهو بلا قدم، وبلا يد، وكيف سيسمع النداء حين ينادى عليه، وهو بلا رأس).

 (سيمون دو بفوار (1908-1986) عاشت الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخصتهما بحديث طويل في مذكراتها، وكان الحديث منصرفًا إلى عالم النساء، فكانت سطورها أشبه بمرثاة للنساء اللواتي فقدن رجالهن (الأزواج، والإخوة، والأبناء)، وأشبه بصرخة تفجع لأن النساء أصبحن وحيدات يروين الأخبار، ويتناقلن القصص، ويزرن المقابر، وتساءلت، ما قيمة الحياة حين تفقد نصفها، ومن هو العاقل الذي يعوّل على النصف، ومن سيحاسب المجرم سارق  بهجة الحياة، وكيف لهؤلاء النساء أن يبدأن فعل النسيان، وهل بمقدورهم نسيان نعمة  الرجال!)

(امرأة من غزة تكتب في يومياتها، خرجت لأبحث عن حطب أو شوك أو قطع كرتون لأخبز رغيفًا في المقلاة لأولادي، مشيت طويلاً بين ركام البيوت، وقد صارت مخافة، لم أجد شيئًا سوى آثار الأقدام التي عرفت أنها جاءت قبلي لتبحث عمّا أبحث عنه! ها أنا أرى ثلاث نسوة أو أكثر على يميني، وست نسوة، أو أكثر، على يساري، وحين أعيد بصري إليّ، أرى قربي نسوة، وحين التفت إلى الوراء، أرى نسوة أيضًا، وحين أعود أدراجي، لا أرى سوى النساء الهائمات السائلات الراكضات، إنهن يبحثن عن شيء ما، ترى أيبحثن مثلي عن حطب، أو شوك أو قطع كرتون، وهل توهمن مثلما توهمت بأنه ما زال لي أولاد، فخرجت أبحث عن الحطب لأخبز لهم رغيفا في المقلاة، وأنا في الحقيقة أبحث عنهم، بعدما فقدتهم، وفقدت زوجي وأخي، وأبي. فهل جنت هؤلاء النسوة مثلما جننت، لا أدري!.)

توماس مان (1875-1955) عاش ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، ترك كل شيء وراءه في ألمانيا، وخرج طالبًا الأمن والأمان ليس لنفسه فقط، بل لكتاباته التي سجلها كيوميات للحرب، وأخبارها الشنيعة (ما هذا الذي يحدث، لقد احتلوا باريس، وأفرغوا شوارها من الناس، ودمروا البيوت، وقتلوا كل من ارتطوا به! أغلقوا المدارس، والمطاعم، والحانات، والاسواق، الآن، لا مدارس، ولا وظائف، وضعوا الحواجز في الطرقات، واعتقلوا الخلق، وخوفوا الناس، وأحرقوا المكتبات، الآن ،لا غناء في باريس، لا شعر، لا موسيقى، والحدائق لا وجود لها، والأشجار بلا طيور، بلا ظلال).

شاعر من غزة يكتب (أذكر تمامًا، أن شارعًا كان هنا، اسمه شارع العشاق، أوله كانت مدرسة الأجيال، الآن، ليس الشارع هنا، ولا العشاق، ولا المساءات الندية، والمدرسة ليست هنا، والتلاميذ غائبون، لا أسمع ضجة لهم، ولا مقاعد في الصفوف، ولا كتب، لكن أين هي الصفوف؟ وقرب المدرسة كان خزان الماء العالي، إنني لا أراه أيضًا، أين هو، لأنتظر قليلاً، لعل دخانًا لفه، أو ضبابًا، وهنا، هنا تمامًا، كانت السوق بأكشاكها وعرائشها وعرباتها، إنها غائبة لا وجود لها أيضَا، لعلها مضت إلى مكان آخر، وهناك كان مشفى العودة، وهذه الدانية مني هي ساحته، لكن أين المشفى؟!، كل ما أراه أمامي صار ساحة كبيرة ملأى بالكامل والأسئلة، والأبراج، والبيوت والحدائق التي كانت هنا، أين هي؟! وكيف لهذه المقبرة أن تنبت هنا، وأين شواهد قبورها، وما هذا البياض الكثير والكثيف الذي يعلو عربات الجر التي تمر بي، أسأل أحد الناهرين لحصانه، فيقول لي: إنهم أهل المقبرة).

أجل، إنها الحرب التي كانت هناك، وقد هجاها الجميع، وإنها الحرب هنا، وقد هجاها الجميع أيضاً عدا من جعلوها حياتهم وصيغة عيشهم، والتدريب اليومي الجنوني.. ليتقنوا مهارات القتل بالأسلحة الذكية.

التعليقات معطلة.