عندما يستشري الفساد

1

د. لاهاي عبد الحسين

في الوقت الذي تستذكر فيه أجيالاً من العراقيين كيف ارتبطت مفردة “الفساد” بكل ما هو مخجل ومبعث على الشعور بالحرج بل والعار الذي طالما تسبب بإخفاقات اجتماعية كثيرة أثارت الجدل والخصومة والقطيعة بين مختلف الأشخاص حتى بلغت حدّ حدوث حالات طلاق وهجر وانفصال فيما بين الأزواج على مدى عقود من الزمن، فقد تغير الوضع كثيراً منذ ذلك الحين.
ليس من باب المغالاة القول، إنّ غالبية عظمى من المواطنين تتعايش اليوم مع الفساد باعتباره القاعدة لا الاستثناء. لقد استشرى الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع بطريقة تشبه تسارع نمو “زهرة النيل” لتنافس العراقيين على أعز ما يملكون، مياه دجلة والفرات. فمن منا لا يذهب محصناً بفائض من المال لمتابعة معاملة رسمية في دائرة من دوائر الدولة. ومن منا لا يتنبه إلى ضرورة أنْ يضع صورة مستكينة على وجهه كي لا يرفض طلبه أو تعاق معاملته ابتداءً من التعامل مع موظف الاستعلامات وأحياناً مفتشي مداخل المباني الرسمية وصولاً إلى الموظف المعني صاحب القرار النهائي. وفي أحسن الأحوال، تستكمل المعاملة بدس مبلغ من المال يعطى للبركة ودفع الضرر حتى بعد إنجازها بسبب الرسائل الضمنية والخفية المتبادلة بين المواطن المراجع والموظف.
هكذا هي الأحوال اليوم في العراق بفضل شيوع الفساد وبلوغه مرحلة الظاهرة الاجتماعية التي تتسم بحسب تعريف عميد علم الاجتماع المعاصر إيميل دوركهايم بالعمومية والجمعية والموضوعية والقسرية. اذا ما أخذنا هذه الخصائص الرئيسة بالتسلسل نجد أنّها تتطابق بصورة ممتازة مع ما استشرى من انتهاكات وتجاوزات أصطلح على تسميتها بالفساد اليوم في بلادنا. فهو يعم مختلف القطاعات الاقتصادية والسياسية الحكومية وغير الحكومية ويقطعها طولاً وعرضاً. وهو يمارس على مستوى أعداد كبيرة جداً من الناس فهو جمعي بالتأكيد.
والفساد موضوعي بمعنى أنّه يمكن رصده من قبل أكثر من طرف ولا يقتصر على تصورات أو معلومات حصل عليها هذا الشخص أو ذاك. ولعلّ الأهم أنّه قسري بمعنى أنّه صار يمتلك القدرة على إقحام الناس فيه دون أنْ يكون لديهم رغبة فيه أو دون أنْ يكونوا مقتنعين شخصياً بممارسته. ولعلّ هذه الخاصية الأخيرة هي الأخطر والتي تجعل من الفساد ظاهرة سيئة ومدانة تصنع منه آفة مطلوب التحرك لاستئصالها قبل أنْ تستمر في التنامي والتجذر لتصبح جزءاً من الثقافة الشعبية الشائعة والمتعايش معها.
يأخذ الفساد أشكالاً متنوعة منها انتشار تعاطي الرشى والاختلاس والتزوير والابتزاز وما إليها على المستويات العليا فالوسطى ومن ثم نزولاً إلى المستويات الدنيا من المشتغلين في مختلف قطاعات الدولة. يحصل كل هذا ويزيد من خلال ما يسمى بالفساد المالي والإداري وسوء استخدام السلطة الممنوحة والمحددة بصلاحيات ومسؤوليات معينة. وبحسب تعريف المنظمة الدولية للشفافية فإنّ الفساد يعني من بين ما يعنيه خيانة الأمانة والثقة وإلحاق الضرر بالوظيفة العامة وما يفترض أنّها صممت من أجله لأغراض شخصية أو عائلية أو عشائرية أو دينية أو طائفية خاصة.
هذه أمور لم تعد الصحافة الوطنية المسؤولة لتتطرق إليها فحسب ولم تعد موضوعاً تبحث فيه منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية المعارضة وإنّما بلغت حدّاً صار فيه مسؤولون بمستوى نواب في مجلس النواب العراقي يتحدثون عنه وبالأرقام والأدلة المادية الدامغة والتي جاء بعضها ضمن جلسات استجواب علنية لمسؤولين كبار في الدولة والحكومة كما حدث في أكثر من مناسبة ونقلت من على شاشات التلفزيون في برامج وقنوات تحظى بنسبة متابعة عالية.
يعرف المواطن العراقي جيداً أهمية الحل الجراحي الذي يتطلب اتخاذ سياسات شجاعة من خلال موظفين ومسؤولين شجعان لا تأخذهم في “الحق لومة لائم”. وهذا ما يتطلب تعبئة جهد أكثر من مؤسسة وقطاع وبخاصة على مستوى الأجهزة الأمنية والتنفيذية والتشريعية والقضائية بالتعاون والتنسيق المحكم. جهود لا تتوقف عند حد الإدانة والإقالة بطريقة تقرب من الدغدغة والمجاملات الجوفاء والتحقيقات السائبة وإنّما جهود تستهدف العمل على استرجاع الأموال المنهوبة وتفعيل الوثيقة الحكومية التي كانت سارية المفعول في ما يتعلق بسلوك المتقدم للحصول على وظيفة حكومية وهي وثيقة “حسن السمعة والسلوك”. هذه وثيقة تحارب المزورين والغشاشين والمختلسين والمتجاوزين على المال العام بكل أشكاله ومستوياته قبل أنْ يطأوا بوابة المؤسسة وتقدم أفراداً يتسمون بالنظافة المهنية اللازمة، ابتداءً. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد. فالقول إنّ الفساد ظاهرة اجتماعية يتطلب وضع برامج لمعالجتها واستهدافها في صلب البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع. الفساد سلوك وتنشئة على الخطأ وتساهل في معالجته مما يتطلب العودة الفاعلة والمسؤولة إلى مجالس الآباء والأمهات برعاية إدارات المدارس لمتابعة السلوكيات الخاطئة وتصحيحها لحظة ظهورها.
الفساد يبدأ من المدرسة التي لا تهتم بقيافة الطلبة وتتابع جدهم واجتهادهم. وهو أيضاً يتبدى عندما يتعنت المعلم ويفترض أنّ رأيه هو الصحيح وأنّه لا يحتاج إلى أنْ يعيد النظر بطرق قيامه بالتعليم وتطويرها تجاوباً مع حاجات الطلبة وأهوائهم وتطلعاتهم. والفساد يحصل عندما يستجاب لقرارات فوقية بتعيين هذا أو ذاك حتى لو لم تكن هناك حاجة لخدماتهم تطميناً للعشيرة وانتصاراً للدين والطائفة والقومية فيما يعاقب آلاف العراقيين الكفوئين والمؤهلين بالإهمال والإقالة القسرية والإحالة على التقاعد المبكر بل وحتى الحرمان منه. نسمع الكثير من الشكاوى حول اكتظاظ المدارس وكثرة الطلبة المسجّلين في المرحلة الدراسية الواحدة، ولكننا لا نكاد نسمع شيئاً عن وجود أعداد كبيرة من الخريجين العاطلين عن العمل ممن يمكن أنْ يقوموا بالعمل كمدرسين لتغطية احتياجات هذه الأعداد المتزايدة بصورة طبيعية من الطلبة.
ولا يغيب عن البال أهمية الترويج لثقافة النزاهة والكرامة من خلال التمرين والممارسة وليس فقط الحفظ والتلقين بالطرق التربوية الرتيبة والروتينية التي لم تعد تثير الاهتمام وتستدعي المتابعة. نحن بحاجة إلى استخدام ما أنتجه العقل العراقي على مدى عقود من الزمن بصيغة قوانين وأفكار وعبر نجدها في مصادر مكتوبة وغير مكتوبة مما تكتنز به المنظومة القيمية والأخلاقية والأدبية الاجتماعية شريطة التمييز والانتقاء وليس مجرد العودة إلى كل ما درج عليه. لسنا بحاجة إلى تقنيات حديثة ومتطورة لمعالجة الفساد ووقفة مؤتمراتية وندواتية يعبأ إليها عدد من المشاركين المستعجلين لتقديم مادتهم الكلامية دون جدوى تذكر. نحن بحاجة إلى تنشيط قنوات المودة والتواصل والاحساس بالمسؤولية الوطنية والمجتمعية. وهذا أمر تفشل في تحقيقه الدعوات المكلفة إلى مطاعم الدرجة الأولى في بغداد وغيرها من المحافظات أو الدعوات المنزلية المرهقة والدخول في طقس تقديم الهدايا التي صارت بنداً ثابتاً يثقل كاهل العديد من المواطنين وبخاصة موظفي الدولة ومؤسساتها حيث يتداخل العام بالخاص في مسعى للمحافظة على الوظيفة وتجنب المحاسبة والعقاب، وإنْ كان لازماً وضرورياً.
معالجة الفساد تتطلب قدراً من التواضع والفهم والبساطة إلى جانب وضع المنظومات القانونية الدقيقة التي لا تسمح بسوء التفسير خاصة وأنّ مؤسسات الدولة ودوائرها تزخر بذوي القدرة على الادعاء بالفهم ممن يطلقون التفسيرات الخاطئة وغير المنضبطة بلا أدنى شعور بالحاجة إلى التحقق والتأكد من سلامة التفسير ومن ثم الفعل.
يذكر أنّ هيئة النزاهة بعثت أواخر الأسبوعين الماضيين رسائل نصيّة إلى العديد من المواطنين العراقيين تزودهم فيها برقم هاتف وعنوان الكتروني للحث على المشاركة في محاربة الفساد تحت شعار “لضمان عراق خالٍ من الفساد الإداري والمالي”. مع التسليم بحسن النيّات، فهذه مبادرة أقرب إلى الدعائية منها إلى العلاجية لآفة الفساد الذي صار ظاهرة. فالفساد يتطلب متابعة على مستوى المسؤول المعني وفي أروقة الأقسام والدوائر المعنية مباشرة بمصالح المواطنين وجهاً لوجه. أضف إلى ذلك إنّ أفضل طرق الدعاية والترويج وأكثرها فعالية وبخاصة على مستوى مؤسسات العمل إنّما يكمن في العمل والإنجاز من خلال ما يسميه العراقيون “الكبسات” وما يسميه بعضهم الآخر شعبياً “الكضات”، وليس رصد الأموال في مبادرات لا تغني ولا تسمن من جوع.
لعل شن الحرب الأكبر والأوسع ضد الفساد أياً كان شكله ومصدره هي المهمة الأكثر إلحاحاً اليوم وبخاصة بعد الانتصارات العسكرية الكبيرة التي تمّ تحقيقها في محاربة العنف والإرهاب. ولكنّ الحرب ضدّ الفساد في العراق حرب من جنس مختلف حسنتها أنّها تحظى بالإرادة الوطنية اللازمة للقيام بها. حرب تتطلب تفرغ كفاءات مهنية وقضائية وتحقيقية وتنفيذية تعمل على جبهة تطوير القوانين والضوابط التي تحد من صلاحيات المسؤول الإداري وتخضعه للمساءلة بالصغيرة والكبيرة وفق قاعدة “لا أحد فوق القانون”.

التعليقات معطلة.