عن أهداف الاغتيالات وسماتها في صفوف المقاومة

3


آراء

عصام شعبان

تشكّل عمليات الاغتيال (تاريخياً) أداةَ إضعافٍ لقوى المقاومة، تهدف إلى إرباكها والحدّ من قدراتها عسكرياً، وأيضاً النيْل من صورتها الرمزية ونفوذها، تنظيمياً وجماهيرياً. لم تقتصر الاغتيالات على مقاتلين، فطاولت كتّاباً وعلماءَ وشخصياتٍ عامّة كما غسّان كنفاني وماجد أبو شرار وناجي العلي، لأنّ من ضمن أهداف الاغتيالات أيضاً هزيمة أفكار المقاومة وشلّ فاعليتها الفكرية والسياسية، بما ينفيها فكرةً وخياراً، وإزاحتها من مساحات الجغرافيا والفضاء العام، كما تتزامن الاغتيالات مع تعميم الأفكار المناوئة لأشكال المقاومة كلّها، شعبياً وسياسياً وعسكرياً.
حضرت الاغتيالات مع محطّات المواجهة ومنها الانتفاضتَان الأولى والثانية، وتتابعت مع جولات العدوان على غزّة. ومنذ 7 أكتوبر (2023)، هدَّدت حكومة الاحتلال باستهداف المُنفّذين والمُخطّطين وداعميهم في كلّ مكان، معتبرةً مجموعاتِ المقاومة كلّها جبهةً واحدةً، لتصبح الاغتيالات أداةَ حربٍ رئيسةً تطاول قيادات الصفَّين، الأوّل والثاني، لإحداث إرباك وفراغ في القيادة، وصولاً إلى مرحلة الإضعاف التام، وتمهيداً لإبعادها هدفاً مُعلَناً مع نزع سلاحها واحداً من شروط إنهاء العدوان على غزّة. وفي ساحة لبنان، مطلوب إبعاد حزب الله عن الجنوب خلف حدود نهر الليطاني، ونزع سلاحه أو تدميره، لتبقي المنطقة خاليةً، حتّى من قوات الأمم المتحدة (يونيفيل) التي تعرّضت لهجمات لتتراجع وتُخلي بعض مواقعها كما يُطالب الاحتلال. ويناشد نتنياهو اللبنانيين استثمار الفرصة والتخلّص من حزب الله.

تتزامن الاغتيالات الإسرائيلية مع تعميم الأفكار المناوئة لأشكال المقاومة كلّها، شعبياً وسياسياً وعسكرياً

وتجمع سياسة الاغتيالات أهدافاً تكتيكيةً؛ إعاقة المقاومة وتقليص وجودها، وأخرى استراتيجية؛ القضاء عليها. يتّضح ذلك من توجّهات حكومة الحرب، وهي تنتقل من هدف هزيمة حركة حماس إلى إضعاف مجموعات المقاومة كلّها، وفكّ ارتباط بعضها بإيران على أرضية مناوأة إسرائيل، وصولاً إلى نفي المقاومة فكرةً، ضمن إلغاء المسار التحرّري المقاوم سياسياً وشعبياً، وبدلاً من ذلك القبول بهيمنة الاحتلال على المنطقة، وإحلال مكوّنات تابعة له في غزّة على سبيل المثال، وربّما التخطيط لتغييرات سياسية في لبنان مشابهة، ترتكز على أنّ المقاومة استجابةٌ طبيعيةٌ تجاه المحتلّ غير ممكنة وكارثية، وأنّ التطبيع مع غير الطبيعي، وقبول إسرائيل قيادةً للشرق الأوسط، هما المساران الممكنان للسلام والتنمية.
وتتكامل الاغتيالات مع القصف والنزوح والعقاب الجماعي ضمن توسيع دائرة العدوان، التي تمتدّ من غزّة إلى الضفّة الغربية إلى لبنان، ومن اليمن إلى سورية، وفرص توسّعها في العراق، بقصفٍ وعمليات اغتيال، مرشّحة للتصاعد، مع تهديد وتحريض مستمرّين من الاحتلال، الذي لا يواجه حركة حماس فحسب، بل جميع القوى المناوئة مهما كانت أيديولوجيتها. عملياً، طاولت الاغتيالات في لبنان قيادات من “حماس” ومن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة فتح (تتواصل في الضفّة)، وسبّبت قتل العشرات من قيادات حزب الله الميدانية ومن مجلس شورى الحزب، وكان اغتيال أمينه العام، حسن نصر الله، دليلاً على رفض مسار الدبلوماسية وفشل جولاتها لوقف العدوان على لبنان، وهو اغتيال يُضاف إلى اغتيال إسماعيل هنيّة في طهران، ويحمل التوجّه نفسه من المفاوضات بشأن غزّة.
ساهم حزب الله مع القوى الوطنية اللبنانية في تحرير معظم الجنوب المحتلّ في عام 2000، وأدار حرب تمّوز (2006)، وتتّهمه واشنطن بالإضرار بالمصالح الأميركية في المنطقة، وصنَّفته الخارجية الأميركية في أكتوبر/ تشرين الأوّل 1997 منظّمةً إرهابيةً، كما سعت الحليفتان، تلّ أبيب وواشنطن، إلى الانتقام من بعض قياداته المُدرَجة ضمن قوائم الإرهاب، وتعمل الخزانة الأميركية على محاصرة مصادر تمويله وشبكاته الاقتصادية، كما رصد برنامج مكافآت العدالة (صرف 250 مليون منذ تأسيسه عام 1984) عشرات الملايين من الدولارات لمن يدلي بمعلومات عنهم. وبعد العدوان على غزّة، اغتيل فؤاد شكر، وأيضاً الرجل الثاني عسكرياً إبراهيم عقيل الذي تولّى مسؤولية وحدة الصواريخ الدقيقة، وكلاهما متّهمان بتفجير ثكنات أميركية في بيروت عام 1983، أسفرت عن قتل 241 جندياً وإصابة 128 آخرين، بجانب حادثة قتل 58 فرنسياً في هجوم مماثل. واغتيل عقيل المصنَّف إرهابياً عالمياً مع قيادات من وحدة الرضوان. وكان اغتيال نائب رئيس حركة حماس، صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت، المحطّةَ الأولى في خطّة اغتيالات طاولت قيادات المقاومة في لبنان بعد العدوان على غزّة.
ويمكن قراءة أهداف سلسلة الاغتيالات وسماتها في نقاط عدّة. فأولاً، إلى جانب الإنهاك وتقويض قدراتها على التواصل والتوجيه، تزرع الاغتيالات على المستوى النفسي الريبة والارتباك، ما يدفع المقاومةَ إلى التحرّك بحذر، ويساهم القضاء على قيادتها في الحدّ من فاعليتها، وتعطّل مسارها سنوات. كما تختلف الاغتيالات من حيث طبيعتها عن سياسة “جزّ العشب” المتَّبعة سابقاً، فلم يعد الهدف وقائياً، أو استئصال قيادة بعينها من جسد التنظيم، بل نفيها والقضاء عليها، وهو ما استدعى نقل مسرح القتال وتوسيعه خارج غزّة بوتيرة متسارعة، واعتبار مواجهة حزب الله أولويةً رئيسةً، وأن تطاول الاغتيالات الصفوف الأولى والثانية. ومعها لم يعد استبدال المواقع الشاغرة سهلاً، ويبدو أحياناً مؤجّلاً، كما حالة حزب الله الذي ما زال يتشاور من أجل قيادة قد يُقضَى عليها فور إعلانها، كما جرى في تتابع الاغتيالات من أحمد ياسين إلى عبد العزيز الرنتيسي. وبجانب الانتقام، تمنح الاغتيالات الاحتلال الشعور بالسيطرة وسلب المقاومة التوازن، ما يصنع صورة النصر ميدانياً وسياسياً للعدو مدفوعةً بالقدرة المستمرّة على الهجوم المتتابع والصادم.
ثانياً، تشمل سمات الاغتيالات جغرافياً، إلى جانب الأراضي الفلسطينية، مجموعات المقاومة بالتركيز على لبنان، وعمليات محدودة في سورية والعراق (تبدو تلك العمليات رمزية، لكن الانتقام والهجوم عليها مرشّحان للتوسّع)، وهؤلاء يجمعهم أولاً مناهضة إسرائيل، وثانياً خطّ التعاون مع إيران التي تعتبرها الولايات المتّحدة وإسرائيل هدفاً مشتركاً منذ سنوات. وتشير الدولتان إلى المواجهة الحتمية، كما تصنّف واشنطن قوى المقاومة ضمن منظّمات إرهابية، وتحرّض عليها دوائر السياسة الأميركية. وليس من قبيل المصادفة أن ينشر مركز أبحاث الكونغرس خلال سبتمبر/ أيلول الماضي ثلاث أوراق عن حزب الله تمهيداً وحشداً سياسياً خلف الهجوم الإسرائيلي، وضرب مواقعَ في الضاحية الجنوبية لبيروت بالطائرات، والاشتباك البرّي عند الحدود، وأن يخرج الرئيس الأميركي جو بايدن، معتبراً اغتيال نصر الله إقراراً للعدالة، في إشارة إلى اتهامات بقتل جنود وأفراد أميركيين وأوروبيين، غير مهتمّ بأنّ إسرائيل شنّت هجمات، سبّبت نزوح مليون ومائتي ألف داخلياً، غير نزوح إلى دولتي الجوار العراق وسورية.
وفي مشهد الاغتيالات، تنتقل المواجهة الرمادية بين إيران وإسرائيل بضربات متبادلة، بعد مبادرة الاحتلال بالهجوم والاغتيال، مستخدماً أساليبَ الاستهداف جوّاً، نظراً إلى تفوّقه العسكري. ومع ذلك، يظلّ أسلوب الاشتباك المباشر وسيلةَ اغتيال مرشّحاً للتكرار، ويجري في الضفّة ضدّ مجموعات المقاومة، وسبق أن نُفِّذ في دول عربية، مثل تونس والإمارات، ووارد أن يتكرّر في أماكن أخرى.
ثالثاً، خطَّط الاحتلال لتنشيط سياسة الاغتيالات قبل 7 أكتوبر، وتناولت أصداء التوجّه وسائل إعلام عبرية منذ إبريل/ نيسان 2023، ونقلت القناة 12 العبرية تصريحات للوزير يسرائيل كاتس بشأنها. وخلال أغسطس/ آب 2023، شهدت بيروت تحرّكات دبلوماسية لتجنّب المواجهة، ونصحت دول عربية بنقل قيادات فلسطينية من لبنان، بحسب تقرير لصحيفة جيروزاليم بوست. كما هدّد بنيامين نتنياهو باغتيال قيادات من “حماس”، وقال صالح العاروري لقناة المنار، يوم 26 أغسطس/ آب الماضي، إنّ المقاومة مستعدّة لمواجهة شاملة لمخطّطات الاستيطان الساعية لإبعاد الفلسطينيين عن الضفّة، ولا تخشى التهديدات. بينما حذّر نصر الله من استهداف قيادات المقاومة، التي بدأت مع اغتيال العاروري وخمسة آخرين، ومعها فتحت إسرائيل مرحلةً جديدةً من الحرب. وقال نصر الله في خطاب بمناسبة الذكرى الرابعة لاغتيال قاسم سليماني إنّه في “حال العدوان على لبنان ستكون المواجهة من دون ضوابط”. وإجمالاً، كان اغتيال العاروري الذي تعدّه إسرائيل أداةَ وصل مع إيران وحزب الله، العملية الأولى في مسلسل متّصل أسلوبَ تصفية. وردّاً على تنشيط مجموعات المقاومة في الضفّة الغربية بالتعاون مع حركة الجهاد الإسلامي، تلا ذلك اغتيال رئيس حركة حماس، إسماعيل هنيّة، في طهران، وكان إعلاناً أنّ مسار المفاوضات الدبلوماسية مُعلّق لصالح مواصلة الحرب وتوسيع نطاقها، بما في ذلك مواجهة شاملة مع حزب الله، تضمّنت اغتيالاتٍ متتابعةً، واتخذت طابعاً جماعياً في تفجير أجهزة “البيجر”.
بعدها جاء اغتيال حسن نصر الله بقنابلَ خارقةٍ للتحصينات (تزيد عن 80 طنّاً) لحظةَ مواجهة شاملة مع الحزب وحلفائه في الشرق الأوسط، ومحطّةً خسر فيها الحزب قيادةً ظلّت عقوداً في العمل السياسي تولّت مسئولياتها بعد اغتيال الأمين العام السابق، عبّاس الموسوي، عام 1992. حاولت إسرائيل اغتيال نصر الله (20 يوليو/ تمّوز 2006) بـ23 طناً من المتفجرات، بعد العدوان على غزّة في العملية المسمَّاة “أمطار الصيف”، ردّاً على أسر الجندي جلعاد شاليط، حين نفَّذ الحزب عمليةَ الوعد الصادق. وجاءت المحاولة الثانية مع دخول المقاومة اللبنانية جهةَ إسنادٍ للقطاع منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واستهدفت أيضاً قيادات من الجبهة الشعبية وحركة فتح إلى جانب “حماس” هدفاً أساسياً في لبنان وسورية، مع الضغط على الحواضن الاجتماعية في لبنان كما جرى في غزّة. ضُرِبت مع قرى الجنوب الحدودية مناطقُ في البقاع والضاحية الجنوبية، وبعض المخيّمات الفلسطينية في لبنان. وفي سورية، استُهدِفَت مبانٍ تابعةٌ للمقاومة، غير أماكن تصنيع سلاح ومناطق حدودية. ونجا شقيق الرئيس السوري ماهر الأسد من محاولة اغتيال (؟)، وهي إشارة إلى بشّار الأسد بأن يبقى مع الصامتين. وتحمل الاغتيالات هنا رسالة ترهيب وتحذير إلى الفئات التي يمكن أن تراجع مواقفها، وهي تختلف نسبياً عن اغتيالات تستهدف شخصيات لها سمات قيادية مشتبكة فعلياً في خطّ مواجهة بشكل واضح، مثل رموز المقاومة سياسياً وعسكرياً، والذين لديهم القدرة على بناء صلات في داخل بلدانهم وخارجها (كما نصر الله وإسماعيل هنيّة وصالح العاروري) ويحملون خبرات سياسية (كما أعضاء المكاتب السياسية). هذا بجانب نوع ثالث من استهداف القيادات العسكرية التي تتمتع بقدرات على التنسيق والإدارة والتدريب والتخطيط، وهؤلاء جرى استهدافهم خلال العدوان أخيراً على غزّة ولبنان، وركّزت إسرائيل فيهم منذ الانتفاضة الثانية، تزامناً مع سعي المقاومة إلى التعاون وتبادل الخبرات لتطوير قدراتها، قياساً بما امتلكته سابقاً من أدوات بسيطة وتقليدية.

يعزّز استهداف قيادات المقاومة الثقة بجيش الاحتلال، ويشيع صورةً للوحدة تعيد اللحمة التي كادت تتفسَّخ في إسرائيل

رابعا، هناك مؤشّرات بأنّ سياسة الاغتيالات ستمتدّ خلال الحرب ضمن مواجهة لن تنتهي بتنفيذ أهداف الاحتلال من الحرب حالياً، وهي تخدم هدف الردع، وتتّصل بإضعاف المقاومة ونفيها وجوداً وفكراً ضمن تنفيذ استراتيجية إسرائيل في الهيمنة على المنطقة، وبإنهاء أيّ أفق للتحرّر الوطني، بما في ذلك بنىً فكرية ترتبط بأطراف الصراع، على أن يبقى خيار السلام والتطبيع تحت رايتها هو السبيل الوحيد لتجنّب الحرب، وهو توجّه تدعمه أغلب القوى السياسية، وسبق أن هاجم رئيس حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان، نتنياهو خلال احتفال بمدينة بئر السبع (أغسطس/ آب 2023)، وطالب باتخاذ إجراءات “لاغتيال رؤساء حماس الذين يموّلون الإرهاب”. وبعد اغتيالاتٍ طاولت حزب الله، قال كاتس، إنّ الاغتيال “جزء من الحرب”. وداخلياً يلعب استهداف قيادات المقاومة السياسية والعسكرية دوراً في تعزيز الثقة بالجيش، وقدرته على الردع والانتقام، إلى جانب التنسيق مع جهازي الموساد والشاباك، ما يشيع صورةً للوحدة داخل بناء الدولة وخارجها، ويعيد خلال الحرب اللحمة التي كادت تتفسَّخ لأسباب بينها تعديلات في نظام القضاء.
وتُوظَّف الاغتيالاتُ (إلى جانب طابعها الانتقامي) في محو مشهد الصدمة مع عملية 7 أكتوبر، وتنفي التراخي قبيل تهديد المقاومة بشنّ هجوم ردّاً على جرائم الاحتلال من توسّع الاستيطان والاقتحامات لقرى الضفّة ومدنها، وزيادة عدد الأسرى وسوء أوضاعهم في السجون، غير الحصار الممتدّ في صورة “العقاب الجماعي”، الذى تمارسه إسرائيل (وما زالت)، وتحاول الهيمنة علي مجمل المنطقة بمخطّطات عن السلام أو بفرض خيار الحرب لمن لا يقبل قيادتها.

التعليقات معطلة.