عبد المنعم سعيد
فى عقد الستينيات من القرن الماضى ذاع صيت فيلم «كيف تسرق مليون دولار؟!» بطولة «بيتر أتول» و«أودرى هيبورن» على ما أذكر. دارت القصة عن عملية سرقة للوحة نادرة فى سلسلة من الخطوات المثيرة والمرحة، ولكن الجوهر كان تلك القيمة الساحرة للمليون دولار التى تنقل إنسانا من حالة إلى أخرى، ومن طبقة اجتماعية إلى طبقة أعلى عرفت بالمليونيرات. الآن لم يعد هذا القدر من الثروة «مليون دولار» يثير خيال أحد، ومن ثم أصبح الخبر ليس مولد مليونير جديد وإنما ظهرت شريحة جديدة من الأثرياء باسم المليارديرات أى الذين يستحوذون على مليار دولار أى ألف مليون دولار. هذه النوعية من الأخبار تدور حول «النقود»، ولمحدودى الدخل الذين لا يدخلون فى هذه المستويات فإنها تلك الأموال التى تحتوى عليها جيوبهم أو حافظتهم، ومن ثم فإن الذهول يكون من هذا الحجم الهائل الذى لا تتسع له حافظة أو جيب. بعض من هذا الخيال يأتى فى أنباء مثل تلك التى أذاعتها منظمة «أوكسفام» البريطانية والتى قالت فيها إن ١٪ من أغنياء العالم (والغنى هو ذلك الذى لديه مليار دولار فأكثر) استحوذوا على ٨٢٪ من الثروة العالمية، ولما كانت هذه الثروة قد زادت خلال السنوات الأخيرة، فإن هذه الزيادة ذهبت فى كلياتها إلى الأغنياء، أما الفقراء فلم يحصلوا على زيادة تذكر.
وأثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية فإن المرشح الرئاسى بيرنى سوندورز لم يكف أبدا عن ترديد مقولة شائعة أن ١٪ من الأمريكيين يملكون أكثر من ٩٠٪ من الثروة الأمريكية. وتكاد نفس المقولة تكون شائعة فى كل دول العالم حيث تظهر درجات مختلفة من عدالة التوزيع المختلة نقديا ما بين الدول الإسكندنافية التى يكون الاختلال فى أدناه، بينما يكون فى أعلاه فى الولايات المتحدة والبرازيل. وبالطبع فإن مجلة «فوربس» حريصة دوما على نشر أخبار أغنى أغنياء العالم، وفى أقاليمه المختلفة، وبات هناك نوع من السبق بين من يحوز على هذه المكانة العالية من الثروة فى دول العالم. ولم يكن الأمر يدعو إلى الفخر فى كل الأحوال، فأحيانا كانت الأنباء لجلب العار، وكانت الأخبار الأولى التى أتت فى الصحافة العالمية عن ثورة يناير ٢٠١١ أن الرئيس الأسبق حسنى مبارك كان يملك أكثر من ٧٠ مليار دولار فى البنوك الأجنبية، ولم يكن مفهوما ساعتها وقد ردد الخبر كبريات الصحف العالمية لماذا لم يقع مبارك أبدا فى تلك القائمة المباركة أو حتى الملعونة لأغنى أغنياء العالم. ثبت بعد ذلك أن الأنباء فى هذا الصدد كانت كاذبة (ولم تكن هذه هى الكذبة الوحيدة عن يناير فلم تكن سلمية كما قيل، ولم تكن ليبرالية كما جرى الادعاء، ولكن هذه قصة أخرى على أية حال) ولكن الوصف كان يسير فى ذات الاتجاه الذى يقرر ويلح فى التقرير أن ثمة أمرا خاطئا فى الكون يقوم على من لديهم أطنان من النقد بينما آخرون حافظاتهم خاوية وجيوبهم مثقوبة.
والحقيقة أن فى الأمر بعضا من خداع لأنه فى وقت من الأوقات كان «بيل جيتس» مؤسس ميكروسوفت هو الأول على القائمة العالمية المحظوظة بثروة قدرها ٩٣ مليار دولار أو ما يساوى ما قيل إجمالى ثروة ١٠٠ مليون أمريكى. تكرر الأمر بعد ذلك عندما أصبح لورين بافيت صاحب سلسلة «والمارت» للتوزيع هذه المكانة، وقيل أن صاحب شركة «على بابا» الصينى تفوق على الجميع خلال الأعوام الأخيرة فى الثروة فى بلد اشتراكي!. ما معنى ذلك كله، وما معنى أن يمتلك كل هذه الثروة شخصا ما، بينما آخرين ليس لديهم إلا ما يكفى جيوبهم وحافظتهم؟ المسألة هى أن هؤلاء جميعا لا يملكون أيضا هذه الأموال ولا يستخدمونها إلا بما تسمح به الثروة من متع متاحة وكلها لا تتعدى نسبة ضئيلة مما لديهم، أما البقية الباقية وهى ربما تصل إلى ٩٩٪ من ثرواتهم فهى أصول مختلفة الشكل والنوع يعمل بها ويستهلك منتجاتها مليارات البشر. وربما كان الأهم من ذلك كله أنه لا يمكن تخيل وسائل الحياة التى نعرفها دون هؤلاء الأغنياء الذين قدموا للبشرية السيارة والكمبيوتر وعلاج السرطان لأنه كانت لديهم القدرات التنظيمية لتحويل أفكار نظرية إلى واقع يجعل الإنسان يطير، ويخترق الجبال، وينزل إلى قاع المحيطات سواء كان هذا الإنسان غنيا أو فقيرا لا فرق، فلكل توجد درجة يستفيد فيها وينتفع كعامل أو منتج أو مستهلك أو حتى مفكر.
الأمر ليس جديدا بالمرة، فمن زاروا منا أوروبا، وهم الآن كثر دون اعتبار للثروة، شاهد القصور والآثار التى تخلب اللب فى جمالها، وبين أروقة الموسيقى، وبعض مما عندنا كان مثيلا لها، ولكن الحكمة فى الأمر كله كانت لأغنياء وأرستقراطية صنعت فنونا، ولولا هؤلاء ما كان هناك لا من اخترع البنسلين، ولا من كان موتزارت. الغنى الحقيقى لم يكن ذلك الذى كان لدى «قارون» حيث الذهب يكسر بالفؤوس، والماس يتراكم فى صناديق يجدها «على بابا» فى كهوف غامضة؛ ولا كان هو ممن راكموا الثروة من تجارة «الكوكايين» فى كولمبيا ودول أخرى وكانت من الكثرة حتى وضعت المليارات فى حجرات تحت الأرض. على العكس فإن الغنى هو من أقام الحضارة، وإذا كان للحداثة معنى فى مصر فإنها جاءت من الذين امتلكوا القدرة والتعليم والموهبة لكى يخلقوا منافذ جديدة للثروة لأنفسهم ولملايين غيرهم. هل يمكن أن نتصور عشرات المدن التى جرى بناؤها فى مصر خلال العقود الأخيرة والتى خلقت مفهوما مختلفا للسكن غير العشوائيات، أو شبكات الاتصال التى قضت على أزمة التليفونات المستحكمة حتى التسعينيات من القرن الماضى، أو أقامت مصانع للحديد والصلب ومواد البناء (مصر صدرت فى العام الماضى بما مقداره ٥ مليارات دولار من مواد البناء) والصناعات الهندسية، أو أنتجت محصولات زراعية من القمح إلى الفراولة، كل ذلك دون تلك الجماعة من الأغنياء المنتجين؟!.
المسألة إذا ليس تلك النسبة السحرية ١٪ على مستوى الكون أو على مستوى دول العالم التى يبدو من غرض أخبارها كما لو أن كل دولار حصلوا عليه كان أولا سرقة من شخص آخر؛ وأنه لا يوجد لديهم من استخدام للدولار إلا أنواع من المتعة لا توجد إلا فى القصص الشعبى والخيال الفقير. الفكر الاشتراكى والشيوعى واليسارى فى العموم نظر إلى الأغنياء كما لو كانوا مجموعة من اللصوص الذين عاشوا على عمل غيرهم، ولكن السؤال كان وهل كان من الممكن للعمل أن يحدث ما لم يوجد المصنع أو المول أو وسيلة المواصلات أو الشبكة المنظمة للإنتاج والاستهلاك والتوزيع. تخيل ماذا كان سيكون عليه العالم بدون بيل جيتس أو وارين بافيت أو على بابا، أو ذلك الرجل العظيم الذى لا أعرفه ويملك شركة لإنتاج الدواء ومنها ذلك الدواء السحرى الذى يعالج سرطان الدم. القضية الأساسية فى موضوع الفقراء والأغنياء هى كيف تكون الفرصة متاحة للجميع، لأن الثابت من التاريخ والجغرافيا أنه لايوجد للثروة حد، والفارق بين البشر هو الفارق فى القدرة على إنتاجها.. تفاصيل ذلك وقت آخر.