عن الحروب التجارية والعملات الدولية

3

د. محمود محيي الدين

المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.

إذ يقبل العالم على عام جديد، تتدافع التقييمات عما جرى وما قد تحمله الأعوام المقبلة للربع الثاني من هذا القرن من تغيرات. وتحتل الصراعات والتوترات الجيوسياسية التي تصاعدت في السنوات الأخيرة مقدمة المخاطر التي تواجه الاقتصاد. ففي التقرير السنوي عن المخاطر المستقبلية، الذي تصدره بانتظام مؤسسة «أكسا» للتأمين، تأتي الاضطرابات الجيوسياسية في المرتبة الثانية، بعد تغيرات المناخ، في المخاطر العالمية المرصودة من خلال مسح إحصائي أجرته لآراء خبراء حول العالم، حيث جاء الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والتوترات الاجتماعية في المراتب الثالثة والرابعة والخامسة على الترتيب من حيث الأهمية.

ينمو اقتصاد العالم بمعدل لم يبرح 3.2 في المائة في العامَين الحالي والماضي، وهو المتوقع أيضاً لعام 2025. ويرجع تواضع معدلات النمو إلى التفتيت الاقتصادي بسبب القيود المفروضة على حركة التجارة والاستثمار والتعاون التكنولوجي وانتقال العمالة. ومن المحتم أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي الفعلي عن المتوقع إذا ما مورست إجراءات حمائية متزايدة تشعل حروباً تجارية.

وفي حين يرى بعض المحللين أن الإجراءات الحمائية هي التي أشعلت الصراعات الجيوسياسية، أرى أن الاقتصاد العالمي يفقد أوصال التعاون والمشاركة الاقتصادية الواحد بعد الآخر؛ بسبب ما بدا توتراتٍ جيوسياسية بين القوى الاقتصادية التقليدية والقوى الصاعدة، تُرجمت إلى إجراءات حمائية تجارية حتى بلغت 3000 قيد، بعدما كانت 900 قيد قبل عام 2020.

وساحات الحروب الاقتصادية الدولية تجاوزت التجارة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر بزيادة موانعه، كما انتقلت إلى تحجيم فرص التعاون التكنولوجي بما فرضته من قوانين لمنع المشاركة في مجالات بعينها لتعويق فرص المنافسة، صاحبتها إجراءات معوقة للتعاون الفني واستقدام العمالة. وتنوعت المبررات لهذه الإجراءات بين دوافع الحفاظ على الصدارة، والتصدي لتغيرات المناخ، وتمتين سلاسل الإمداد التجارية، واعتبارات الأمن القومي. ومن القطاعات الإنتاجية التي تشهد، أكثر من غيرها، مظاهر لحروب اقتصادية والصناعات التكنولوجية المتقدمة، وأشباه الموصلات والرقائق، والمعادن الحيوية، والصلب والألمنيوم، والصناعات الدوائية، والمنتجات المنخفضة الكربون، والأنشطة ذات الاستخدام العسكري والمدني المشترك.

كما أن إجراءات بعض الدول المتقدمة من خلال سياساتها الصناعية الجديدة، وإجراءات التحول نحو الاقتصاد الأخضر، تتضمن مكونات حمائية ومقيدة لحركة التجارة. وتجد بلداناً نامية اليوم بين مطرقة الآثار السلبية لدعم مشاريع منافسة، وسندان القيود على حركة التجارة والتصدير لاعتبارات التحول الأخضر والتصدي لتغيرات المناخ. وأضرب مثالاً بما يتيحه تشريع تخفيض التضخم الأميركي لعام 2022، من دعم سخي لمشاريع في مجالات الاستدامة والتحول الرقمي، ستصعب منافستها من البلدان النامية. وهناك مثال آخر بتداعيات الآلية الأوروبية لتعديل حدود الكربون التي تفرض أعباءً، ابتداءً من بداية عام 2026، على قطاعات تصديرية للبلدان النامية مثل الصلب والأسمنت والأسمدة والألمنيوم وغيرها.

وكما أشرت في مجموعة من المقالات، نشرتها في هذه الصحيفة، تحت عنوان «الحروب والديون والعملة الصعبة» فإن الصراعات الجيوسياسية قد سيّست وسلّحت العملات الدولية أكثر من أي وقت مضى. فهيمنة الدولار بصفته عملة صعبة بعد الحرب العالمية، بما اعتبره البعض سلاحاً نووياً مالياً تجرى عليه القاعدة ذاتها بألا يستخدم إلا دعامةً للاستقرار النقدي والمالي. بما يستتبعه من أن تسليح الدولار إيذان بدمار نظامه، شأنه في هذا شأن الأسلحة النووية التي روّج لها بأن قوتها تكمن في قدرتها على الردع فحسب؛ وأن نهايتها تكون باستخدامها فعلياً.

ولكن الدولار قد جرى تسليحه، بمنع روسيا من استخدامه في المعاملات الدولية بعد حرب أوكرانيا، وكانت قد مُنعت من استخدام نظام «السويفت» للتحويلات البنكية من قبل، بعد إلحاقها جزر القرم في عام 2014. بما جعل التفكير أكثر إلحاحاً في البحث عن بدائل.

وما يبرر هذا الدور للدولار بصفته عملة احتياطية دولية، وما يصاحبه من امتيازات سخية وفياضة على الاقتصاد الأميركي، ألخصه في ثلاثة مبررات: الأول ما أشار إليه رئيس البرازيل إغناسيو لولا دا سيلفا من «ظاهرة الاعتياد» والخشية من التغيير. الثاني، ما ورد نصاً على لسان وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين من أن «هناك أسباباً جيدة لاستخدام الدولار بتوسع في التجارة الدولية، فلدينا أسواق مالية عميقة وذات سيولة ومنفتحة وتحكم بالقانون وأدوات مالية طويلة الأجل»، والثالث ما ذكره الاقتصادي إيسوار براساد عن أهمية الأداء النسبي للعملة الأميركية في استمرار دورها الدولي مقارنة بالبدائل من عملات تقليدية أو ناشئة أو مبتكرة. هذا على الرغم مما وقع فيه الاقتصاد الأميركي مؤخراً من مشكلات تمسّ مصداقية العملة كالارتفاعات غير المسبوقة للتضخم، وكذلك زيادة مخاطر الاستدانة، فضلاً عن استخدام الدولار أداةً من أدوات الصراع الدولي.

ولا أعتقد أن التحذير الأخير للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بالتهديد للباحثين عن البديل للدولار بعقوبات بتعريفة جمركية تصل إلى 100 في المائة مفيدٌ في هذا الشأن. فلاستخدام التعريفة الجمركية آثار سلبية على المستهلك المحلي في الولايات المتحدة تمنع التوسع فيها خصوصاً مع ارتفاع التضخم، بافتراض فاعليتها أصلاً في ردع الباحثين عن البديل. وأي احتمالات للتحول عن الدولار ترتبط بتغير المعطيات بأن تأتي بدائل الدولار مساندة بأداء اقتصادي معتبر وأسواق مالية منفتحة متنوعة الأدوات، وبمصداقية للنظام القانوني والحوكمة، على أن يعتاد المتعاملون عملياً على البديل الجديد. وإلى أن تأتي هذه اللحظات الفارقة للتحول سيستمر دور الدولار الأميركي دولياً ليست رهبة من أثر تعريفة جمركية، لكن رغبة في مزاياه النسبية.

التعليقات معطلة.