ماجد كيالي
ظلّت أفكار الليبرالية، بخاصة المتعلقة بالحرية والمواطنة، مستبعدة، أو موضع شبهة أو تحريم، في الثقافة السياسية العربية، ما يفسّر ضعف حمولات الليبرالية عند مختلف التيارات: القومية والإسلامية واليسارية والعلمانية (والديموقراطية أحياناً)، وحتى لدى فصائل «المقاومة» التي تتغطّى بـ «التحرير»، بسبب انشغال هذه التيارات بما تعتبرها قضاياها أو همومها الكبرى (الوحدة والاشتراكية ومناهضة الإمبريالية وتحرير الأرض).
ما يفسّر ذلك أن هذه التيارات لم تتشكّل في العالم العربي، بوصفها تمثل كتلاً مجتمعية معيّنة، ولا من جهة تعبيراتها أو دلالاتها السياسية أو الثقافية، بقدر ما نشأت كتيارات أيديولوجية، مغلقة ونهائية وثابتة، بحيث أضحت بمثابة تعبيرات هوياتية أو «أديان» أرضية، وهذا أحد أهم أوجه أزمتها أو قصورها أو ضمورها. وكان مارسيل غوشيه في كتابه: «الدين في الديموقراطية»، عرض هذه الظاهرة بصكّه مصطلح «الدين العلماني»، مثلما فعل كرين برنتن في كتابه: «تشريح الثورة»، الذي أرّخ للثورات الأربع الكبرى (البريطانية – والأميركية والفرنسية والروسية)، في حديثه عن قيام الماركسية بالدور ذاته الذي قام به الدين، إذ «يمكن إرغام الكثير من الناس على أداء أعمال معينة من النوع الذي يريد الشيوعيون تنفيذه فقط تحت تأثير ما نسميه الدين، أي نمطاً من المشاعر المتشابهة تقريباً والقوية حتماً، الطموحات الأخلاقية، العقائد الكونية، والممارسات المتمسكة بالشعائر على نحو مغالى فيه. لقد حققت الماركسية بوصفها عقيدة القدر الكثير، أما الماركسية بوصفها «نطرية علمية» فلم تذهب أبعد من كتاب «رأس المال» والمجلات العلمية».
أيضاً يمكن تفسير ذلك بواقع أن هذه التيارات لم تنشأ في البيئات المحليّة لهذه البلدان، أي في جامعاتها وأحزابها ومنتدياتها وصحفها ودور النشر والثقافة، أو في معمعان الصراعات السياسة، فيها بسبب افتقادها لكل ذلك، وإنما نشأت، في الأغلب، بفضل الاحتكاك مع الغرب، بطريقة أو بأخرى، الذي كان اشتغل على إنتاج الأفكار الأساسية لتلك التيارات منذ القرن السادس عشر، بدءاً بحركات الإصلاح الديني والعقلانية وصولاً إلى أفكار التنوير والعقد الاجتماعي والدستور والحداثة والديموقراطية.
ويمكن الاستدلال على ذلك من وقوف التيارات المذكورة كل واحد مقابل الآخر، وتحوله إلى منظومة مغلقة وجامدة وضدية، بحيث لا تخضع لا للتلاقح ولا للتطور، ولا حتى للتكيف، كما في تجردها من أية دلالات سياسية متعيّنة، ما يفسّر وقوف تيارات يسارية (وديموقراطية وقومية) مع أنظمة استبدادية لمجرد ادّعاء هذه بأنها ضد الإمبريالية، على رغم أنها تنتهج الليبرالية المتوحّشة على الصعيد الاقتصادي والاستبداد على الصعيد السياسي، كما يتمثل ذلك في مناهضة اتجاهات ديموقراطية أو علمانية لفكرة الليبرالية (الحرية) وحتى استخفافها بفكرة المواطنة المتساوية.
المشكلة أن كل التيارات المذكورة تعتقد بأن معضلة التطور السياسي والثقافي عندنا تنبع من التيار الإسلامي، لوحده، لذا ففي مراجعة إشكالية العلاقة بين التيارات المذكورة يجدر التنويه بالملاحظات الآتية:
أولاً، إن ضعف الحمولات الليبرالية أمر يخصّ كل التيارات الفكرية أو السياسية في بلادنا (قومية ويسارية وعلمانية وديموقراطية)، أي لا يقتصر على التيارات الإسلامية.
ثانياً، في الحديث عن التيار الإسلامي لا يجوز التعميم، حيث الأجدى تحديد عن أي إسلام نتحدث بالضبط، نظراً لوجود تنويعات عديدة ومختلفة في هذا التيار (كما في القومي واليساري والليبرالي والعلماني)، معتدلة أو متطرفة، منفتحة أو متعصبة، دعوية أو جهادية، مدنية أو مسلحة، حداثية أو سلفية، وثمة تيارات صوفية، وتيارات تعيش على إسلام تاريخي متخيل، وتيارات واقعية ومعاصرة. والمشكلة أن هذه التيارات، على رغم اختلافاتها وتنازعاتها ومنافساتها، في الصراع على الموارد والمكانة والسياسة، إلا أنها لا تتمايز، في الأغلب، عن بعضها، في ما يخص القضايا الأساسية التي تنتهجها، وهي قضايا: الحاكمية، والحدود، والخلافة، والجهاد (إلى يوم الدين)، وتقسيم العالم إلى فسطاطين، بدعوى ما بات يعرف بـ «أخوة المنهج». وبسبب من ذلك فقد بات يصعب التمييز بين تيار إسلامي وآخر، على رغم وصول الوضع إلى درجة خطيرة، كما حصل في التجربة السورية، بحيث بتنا إزاء جماعات إسلامية تقتل جماعات إسلامية أخرى، أو إزاء إسلاميين يقتلون إسلاميين آخرين، ما أضر بالثورة السورية، وزعزع صدقية وشرعية التيارات الإسلامية بكل تلاوينها؛ بمعنى أن المشكلة في التيارات الإسلامية ذاتها، في تقبّلها الواقع وتكيّفها مع تطورات العصر وانفتاحها على العالم أي على الآخرين، المختلفين والمتنوعين.
ثالثاً، إن الإشكالية الأساسية في بلداننا ليست بين تيارات الإسلام والليبرالية وإنما هي بين تيارات الإسلام والعلمانية، وذلك بسبب نقص الحمولات الليبرالية عند كل منهما، أي نقص الحمولات المتعلقة بمفهومي الحرية والمواطنة عند التيارات الإسلامية وعند التيارات العلمانية، كتيارين أيديولوجيين مغلقين، علماً أن هذه معضلة عامة تتعلق بكل التيارات العاملة في العالم العربي. مع التأكيد أن هذه المعضلة لا يمكن حلها إلا بتلاقح هذه التيارات مع بعضها، أي بانفتاحها على بعضها بعضاً، أولاً. وثانياً، قبول أو تمثّل كل واحدة منها للحمولات الليبرالية، أي المتعلقة بالحرية والمواطنة. وثالثاً، التعايش في نظام يتأسس على الديموقراطية الليبرالية، ما يتيح للتيارين التعايش على أساس الاعتراف بالآخر والقبول به.
رابعاً، يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن إشكالية الليبرالية مع الديموقراطية، في العالم العربي، هي خاصة بنا، أي بثقافتنا السياسية، لأن الغرب حلها أو تمثلها، منذ زمن، في شكل تدريجي، بمعنى أن الحديث عندهم يدور عن ديموقراطية ليبرالية، تتأسس على الحرية والمواطنة والفصل بين السلطات، لا عن ديموقراطية فقط، كما يجرى عندنا، إذ يتعذر وجود ديموقراطية من دون نظام سياسي يتأسس على الحرية والمواطنة.
بيد أن السبب الأساس لتعثّر الأفكار الأساسية للحداثة الغربية، باعتبارها منجزاً إنسانياً، لاسيما المتمثلة في العلمانية والليبرالية والديموقراطية واليسارية والقومية، والنظم القائمة على العقد الاجتماعي والمجتمع المدني، وفصل السلطات، وسيادة القانون، وإعلاء شأن الدستور، إنما يعود إلى السلطات القائمة على الاستبداد والفساد التي تحكّمت في البلاد والعباد في العالم العربي، إذ إنها هي التي عوّقت قيام الدولة، باعتبارها دولة مؤسّسات وقانون ومواطنين، وعوّقت تحوّل الكتل المجتمعية إلى مجتمعات بمعنى الكلمة، بتكريسها إياها عند حدود الانتماءات الأوليّة، ما قبل المدنية (المذهبية والطائفية والإثنية والقبلية)، وضمن ذلك فهي عوّقت قيام الفرد – المواطن (الحر والمستقل والمتساوي مع غيره).
وفقًا لهذه الحال، فإن المشكلة تكمن في أن العلمانيين (والقوميين واليساريين)، في الأغلب، لا يرون الإسلاميين إلا وفق صورة متخيّلة، عن التأخر العلمي، والفوات التاريخي، والعنف والتطرف، من دون أن يلاحظوا أن النظم الاستبدادية، التي ادعت القومية واليسارية والعلمانية، مسؤولة عن الفوات التاريخي في البلدان العربية، وعن تردي أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. في المقابل، فإن الاتجاه السائد عند الإسلاميين يرى العلمانيين كمعادين للدين والمتدينين، وكمتغربين، وفاقدين للهوية الأصلية (التي شكلها الإسلام التاريخي أو المتخيّل، في عهده الأول، أي لا يرونهم كمواطنين، من حقهم التعبير عن ذاتهم بحرية. وفوق ذلك؛ فإن مشكلة هؤلاء أنهم لا يرون أن ثمة تيارات إسلامية، تتحرك باسم الدين، وترتكب الكبائر باسمه، وأنها هي التي تصدّر صورة متطرفة وعنيفة ومتوحشة عن الإسلام، فتضر بصورته مثلما تضر بمجتمعات المسلمين تحديدًا.
يتصور كثيرون في العالم العربي أن المسألة تتعلق بالتسامح فحسب، وتاليًا القبول بالتعددية والتنوع، وهذا كله ضروري، لا سيما أن الإسلام يؤكد الدعوة «بالحكمة والموعظة الحسنة»، وأن «لا إكراه في الدين». بيد أن هذا الكلام ليس كافيًا، لذا؛ ووفق مارسيل غوشيه، فإن القصة ليست في التسامح، وإنما في عدّ التعددية مبدأً فكريًا، وثمرة تغلغل الروح الديموقراطية في فكرة الإيمان نفسها (الدين في الديموقراطية).
الفكرة الأساسية التي يفترض إدراكها هنا أنه لا يمكن تأسيس الديموقراطية من دون حوامل ليبرالية، وأن هذه الأخيرة تتوسط بين الدين والعلمانية، إذ إنها لا تستبعد أياً منهما، فضلاً عن أنها ترشّد الديموقراطية كونها لا تترك الغالبية تتحكم بالأقلية، بعدم إعطائها سلطة مطلقة، بتقييدها بالدستور والقيم الدستورية العليا، وحقوق المواطنة، وبالفصل بين السلطات، بحيث لا توجد أكثريات أو أقليات ثابتة أو هوياتية. لذا الديموقراطية من دون ليبرالية، أي من دون مواطنين أحرار ومتساوين ومستقلين، هي ديموقراطية مزيفة ومخادعة.