عبد اللطيف السعدون
السفيرة الأميركية آلينا رومانوسكي في بغداد في مؤتمر عن النفط والغاز (18/2/2023/فرانس برس)
يصفها عارفوها بأنها “امرأة حديدية”، جريئة وصريحة، ومثيرة للجدل، تمتلك خبرات وتجارب أزيد من 40 عاما في أكثر من ميدان من ميادين الخدمة العامة قلما امتلكتها امرأة أخرى، فهي محلّلة متخصّصة في وكالة المخابرات المركزية، وخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، ومؤسّسة لمركز الشرق الأدنى للدراسات الاستراتيجية في جامعة الدفاع الوطني، ونائبة المنسّق الرئيسي لمكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية، ومديرة قسم الشراكة الأميركية الشرق أوسطية، والمشرفة على البرنامج الأميركي لبناء القدرات لمكافحة الإرهاب في المنطقة، وسفيرة مهمّات خاصة، وقد أهّلتها تلك الخبرات والتجارب ليختارها الرئيس جو بايدن لتمثيل بلاده في بلد مثل العراق، ينام أهلُه على نار، ويصحون على نار. ومهمّتها الخاصة، هذه المرّة، مواجهة نشاط المليشيات المسلّحة المرتبطة بطهران التي تسعى إلى فرض سيطرتها على مفاصل الدولة في بغداد والتحكّم في قراراتها.
ألينا رومانوسكي، قبل ذلك وبعده، امرأة علاقات عامة، استطاعت، وفي فترة قصيرة، أن تبني علاقاتٍ متينةً مع رجال السلطة في بغداد وقادة الأحزاب والكتل، وأن تدخُل مكاتبهم متى تشاء، وأن تناقشهم في شؤون بلادهم، وحتى أن تفرض عليهم قناعاتها النابعة من مصالح بلادها، وحاجات أمنها القومي، وهي لا تتردّد في طرح آرائها في الميزانية، والانتخابات، والأوضاع الأمنية، والتشريعات المقترحة، وعلاقات العراق مع الدول. ولا يكاد يمرّ يوم من دون أن تكون لها زيارة لهذا المسؤول الكبير أو ذاك، وقد اتسعت دائرة علاقاتها لتشمل شيوخ عشائر ورجال دين وممثلي منظمات مدنيّة. وليس في وسع أحد من المسؤولين أن يرفض مقابلتها أو يعترض على تخطّيها مهمّاتها التي يقيّدها منصبها الدبلوماسي، وقد اعتادوا أن يشتموها في مجالسهم الخاصة، ويندّدوا بتدخلاتها في الشؤون العراقية، لكنهم يرحّبون بها عندما تلتقيهم، يأخذونها بالأحضان، ويتودّدون إليها، ويسعون إلى كسب رضاها دائما، لأنهم يعرفون أنها بكلمةٍ منها تستطيع أن تعيدهم كما كانوا!
لا تنبع قوة ألينا رومانوسكي، وقدرتها على التحكّم في سياسات بغداد وقراراتها فقط من الصلاحيات الممنوحة لها من حكومة بلادها، وإنما أيضا من ضعف الحكومات العراقية المتتالية
ورومانوسكي، في مسلكها هذا، تذكّر العراقيين بالدور الذي لعبته “الخاتون” مس بيل، إبّان عملها مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق، السير بركسي كوكس، في عشرينيات القرن الراحل، حيث ساهمت مساهمة فعالة في وضع اللبنات الأولى للدولة الوطنية العراقية، حتى وصفت بأنها “صانعة ملوك”. ومع اختلاف المراحل والتفاصيل، تلعب رومانوسكي، هي الأخرى، اليوم الدور نفسه. وضمن خططها الحالية، كما يشاع في المجالس البغدادية، التحضير لتغيير في المواقع السياسية العراقية العليا بما يحقّق رحيل شخصيات سياسية انتهت صلاحية استخدامها، وإحلال شخصيات قابعة في الظلّ محلها!
ولا تتوقف رومانوسكي عن إطلاق “تغريداتها” التي توثق نشاطاتها الميدانية، ولقاءاتها بالمسؤولين، في شهر أغسطس/ آب المنصرم وحده التقت برئيس الحكومة، ورئيس القضاء، ورئيس البرلمان، ووزيري الدفاع والنفط، وكذلك نوري المالكي وهادي العامري وعمّار الحكيم، كما اجتمعت بممثلي البنك الدولي، واستضافت 80 من رجال الأعمال العراقيين، والتقت سفيري الكويت والجزائر، إضافة الى ممثلي منظمّات مدنية. وفي كل هذه اللقاءات والاجتماعات، كانت “الشراكة الأميركية العراقية” حاضرة. وهي لا تكتم عمن تقابلهم وجهات نظرها في “ضرورة إيجاد حلول لمستقبل أفضل لجميع العراقيين، وأهمية وجود عراق مستقل في مجال الطاقة غير معرض لقرارات خفض إمدادات الغاز التعسّفية (من جانب إيران) .. وستساعد التكنولوجيا الأميركية في القضاء على سرقة الكهرباء .. وأهمية إجراء انتخابات مجالس المحافظات .. وضرورة سيادة القانون” … إلخ.
تخضع سياسات حكومة بغداد لإرادة سفيرين أجنبيين يعملان كما لو كانا “مندوبيْن ساميين” عن حكومتيهما
ولا تنسى رومانوسكي أن تفاخر بعلاقة بلادها بـ 270 منظمة مجتمع مدني عراقية (!)، وأن تعلمنا أن بلادها قدمت للعراق 3.4 مليار دولار خلال العقد الأخير لمعالجة واحدة من أخطر قضايانا الماثلة، وهي قضية النازحين، (لا أحد من العراقيين يعرف أين استقرّت تلك المليارات وكيف؟).
بالمختصر المفيد، لا تنبع قوة ألينا رومانوسكي، وقدرتها على التحكّم في سياسات بغداد وقراراتها فقط من الصلاحيات الممنوحة لها من حكومة بلادها، وإنما أيضا من ضعف الحكومات العراقية المتتالية، والهوان الذي يشعُر به المسؤولون العراقيون تجاهها، والإذلال الذي يتعرّضون له منها.
يخيّل لمن يتابع ما تكتبه وما تقوله أنها معنيةٌ بالشؤون العراقية، كما لو كان العراق موطنها الأول، ولا تريد لأحد أن يستأثر به غيرها، ولا ينافسها أحدٌ من السفراء الأجانب العاملين في بغداد سوى سفير إيران، محمد كاظم آل صادق، الضابط في الحرس الثوري، والمدرَج اسمُه على لائحة العقوبات الأميركية، والذي عمل مساعدا لسفير إيران السابق في بغداد أزيد من سنتين قبل أن يصبح سفيرا، وقد اعتاد صادق أن يلتقي المسؤولين العراقيين دائما لينقل إليهم “وصايا” حكومته التي هي بمثابة أوامر.
وهكذا، تخضع سياسات حكومة بغداد لإرادة سفيرين أجنبيين يعملان كما لو كانا “مندوبيْن ساميين” عن حكومتيهما، ولا يمرّ أي أمرٍ مهم من دون أن يكون لهما رأي فيه، هذا بالطبع هو حصيلة احتلالين تعرّضت لهما دولة العراق الوطنية، لا أقسى منهما ولا أمرّ!