عن تسوية الملعب الدولي: حالة أوروبا

1

د. محمود محيي الدين

د. محمود محيي الدين

المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.

أثناء إعدادي لتقديم جديد لكتاب قمت بترجمته منذ سنوات تحت عنوان «أوروبا تاريخ وجيز» للمؤرخ جون هيرست، سألت أحد الخبراء في الشؤون السياسية الأوروبية عن مدى كفاءة تطبيق استراتيجية الأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، فأجابني بقوله: أي منها؟ فهي كثيرة تتشكل من مجموعة من الاتفاقات، والقرارات، والتعهدات، والتوصيات. فهي تضم مثلاً حزمة الدفاع عن الديمقراطية، ومبادرة البوابة العالمية التي تهدف إلى دفع الترابط بين المشروعات الذكية والنظيفة والآمنة في مجالات التحول الرقمي والطاقة والنقل، وكذلك تدعيم نظم الصحة والتعليم والبحث العلمي حول العالم؛ وهناك تشريع المواد الخام النادرة الحيوية، أضف إلى ذلك قانون الرقائق الإلكترونية وأيضاً قانون الحياد الصفري. وهي تشكل معاً مجموعة من الوثائق بدرجات إلزام مختلفة، بهدف التمكين الاقتصادي لأوروبا في الساحة الدولية.

وأضيف إلى ما تقدم تلك المبادرة، الخلافية، المعروفة بآلية معادلة الكربون عبر الحدود، والتي ستكون لها آثار وتداعيات مهمة على صادرات البلدان النامية لأوروبا من الصلب والحديد والألمنيوم والأسمدة والإسمنت ومنتجات الهيدروجين والكهرباء. وستدخل حيز التنفيذ في عام 2026، ويجري التجهيز الانتقالي لها منذ عام 2023 حتى نهاية العام المقبل.

وكما يتندر البعض، فيبدو أن الأوروبيين يتناولون استراتيجية على الإفطار كل صباح. فهناك صناعة ضخمة وراء صياغة هذه الاستراتيجيات داخل الدواوين البيروقراطية وأقسام إعداد الرؤى والسياسات الرسمية، فضلاً عن المئات من مراكز البحث الأكاديمية والمكاتب الاستشارية التي تتبارى في تطوير وتقييم هذه الاستراتيجيات.

ومن أمتع المراجع الموسوعية عن الاستراتيجية وتاريخها كتاب السير لورنس فريدمان، أحد أهم خبراء الحرب والسياسة الدولية. والاستراتيجية في نهاية الأمر، كما يبسطها مايكل بورتر أستاذ إدارة الأعمال في جامعة هارفارد، هي عبارة عن اختيارات محددة بين بدائل للتوصل إلى أهداف بعينها. ومع اعتبار أن بورتر في تحديده للاستراتيجية انصب اهتمامه على التنافس في الأسواق، فقد اختار خمسة عوامل مرشدة لاتخاذ القرار هي: مخاطر دخول قوى منافسة جديدة في السوق؛ ومخاطر القابلية للاستبدال بأن تفضل السوق بضاعة المنافس، ومخاطر زيادة القوة التفاوضية للموردين؛ ومخاطر زيادة القوة التفاوضية للمشترين، وحدة التنافسية. ويحتاج الأمر عملياً إلى الجمع بين منهج فريدمان للاستراتيجية في السياسة الدولية، واقتراحات بورتر لقادة الأعمال في تعاملهم مع الأسواق، للتعرف إلى ما أصبو إليه من تقييم استراتيجية الأمن الاقتصادي الأخيرة للاتحاد الأوروبي.

وفيما يتعلق باستراتيجية الأمن الاقتصادي، التي تأتي على امتداد تاريخ من محاولات لإقامة كتلة جيوسياسية متماسكة، فقد أعلن الاتحاد الأوروبي عن خمس مبادرات لتنفيذها: الأولى تدقيق ومراجعة قواعد فحص الاستثمار الأجنبي المباشر القادم لأوروبا؛ والثانية تطوير ضوابط الرقابة على الصادرات، وبخاصة فيما يتعلق بالمنتجات التكنولوجية المتطورة؛ والثالثة تأسيس نظام لفحص الاستثمارات الأوروبية المباشرة إلى خارج دول الاتحاد وتتضمن التوافق مع توجهات مجموعة السبع بشأن التكنولوجيا الحيوية، أشباه الموصلات، الذكاء الاصطناعي، تكنولوجيا الكم والتكنولوجيا الحيوية؛ والرابعة تطوير البحث التكنولوجي، إدراكاً بأن الولايات المتحدة تستحوذ على أكثر من 40 في المائة من البحث والتطوير على مستوى العالم وتتبعها الصين بنحو 18 في المائة ويليها مباشرة الاتحاد الأوروبي بنفس النسبة تقريباً؛ والخامسة منع «التسريب» من منظومة البحث والتطوير بحظر أطراف ثالثة من البلدان من الاشتراك في أبحاث يمولها الاتحاد الأوروبي في قطاعات حيوية للأمن الأوروبي.

وكما ذكرت في تقديم سابق للكتاب المترجم عن تاريخ أوروبا، «فليدون في أوراق الاستراتيجيات ما يدون، فالعبرة دائماً وأبداً بالتنفيذ وبنتائج تحدث أثراً في تقدم الدول ومكانتها وأوضاع الناس فيها، إذ يذخر تاريخ أوروبا، في مختلف عصورها، باستراتيجيات ومشروعات كانت أكثر طموحاً من قدراتها، وأشد صعوبة على إمكانيات قادتها على تنفيذها». فلم تفتقد استراتيجيات سابقة الطموح الواجب، ولكن أعاق تنفيذها كوابح بيروقراطية ورياح مناوئة بصدمات سريعة لم تكن لتشتهيها مؤسسات بطيئة العمل. فالاستراتيجية هي عملية متكاملة باختيارات لمن يملك القرار، والقدرة على تنفيذ ما اختاره.

ويشير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بواشنطن، إلى معوقات محتملة عند تنفيذ استراتيجية الأمن الاقتصادي أولها قدرة الاتحاد الأوروبي على حض أعضائه على تنفيذ مبادراتها الخمس؛ ثانيها قدرة الاتحاد على التعامل مع رد فعل الدول المتأثرة خارجياً بهذه الاستراتيجية وتحديداً الصين؛ الثالث، وهو الأهم في تقديري، توفر الإرادة السياسية، وبخاصة مع تغير القيادات بفعل الانتخابات، أو تغير توجهاتها بافتراض استمرارها في الحكم بعدها.

فضلاً عن هذه الاعتبارات التنفيذية، فهناك مبدآن يخشى انتهاكهما عند التطبيق، أولهما أن الأمن الاقتصادي لا يتحقق لبلد أو لكتلة من البلدان بعزلتها، ولكن بفاعلية اندماجها وكفاءة انخراطها في التجارة الدولية والاستثمار. كذلك فإن فرض حماية على صناعات وأنشطة منحدرة الكفاءة ليس من الأمن الاقتصادي في شيء، فلهذا تكلفة تتحملها الموازنات والأوضاع المعيشية للمواطنين.

في مقال مهم للاقتصادي جون بيساني فيري بعنوان «ما المطلوب لإنقاذ أوروبا؟» يشير فيه إلى تحديات اقتصادية كبرى تواجهها تتمثل في تراجع التنافسية وأزمات الطاقة والأمن. وهي تحديات تزيد، في رأيي، من ضعف القدرة على مواجهتها التركيبة السكانية المعتلة وتداعيات تغيرات المناخ، ومشكلات التفاوت في الدخول وتباين فرص العمل. ويذكرنا تاريخ أوروبا بأن مثل هذه التحديات قد تسلك أحد طريقين: الأول، بحسم مبكر لها بقيادات واعية تصل بأوروبا لشاطئ آمن، والطريق الآخر هو الفشل الذي يصير وقوداً لنزعات عنصرية وصراعات، وربما الحرب.

التعليقات معطلة.