طلال سلمان
قبل ثماني سنوات كانت دمشق ومعها حلب، تضج بأخبار “الغزو التركي” لسوريا، وحالة الكساد التي تضرب التجار من أصحاب العراقة في السوق والخبرة المعتقة في البيع المربح.
كانت المنتجات الاستهلاكية التركية الرخيصة، نتيجة قلة راس المال المستثمر في انتاجها، تغزو البيوت ومتاجر الأحياء، على حساب الانتاج السوري المتميز بالجودة، وغالي الثمن..
وقررت أن أفتح الموضوع مع الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد، وكذلك مع اللواء محمد الناصيف، القريب جداً منه، باعتباره كان المسؤول عن بيت الرئيس الراحل حافظ الأسد..
على أنني فوجئت برجل المخابرات المُهاب، أبو وائل، ينتفض غضباً قبل أن يقول لي: ان قرار الرئيس بشار الأسد بالانفتاح على تركيا يعادل قرار أبيه الراحل حافظ الأسد في الإقدام على حرب تشرين (أكتوبر) 1973..
حملت هذا الهم الى الرئيس بشار الأسد، بعد ذلك، فاذا به يدافع عن قرار الانفتاح على تركيا، وفتح الأبواب السورية لصادراتها على مصراعيها..
قلت بشيء من الاستنكار: ولكن، السيد الرئيس، حتى لو نسينا اغتصاب تركيا قضاءي كيليكيا واسكندرون، فان هذا الانفتاح على تركيا يهدد الصناعة الوطنية ـ السورية..
قال من دون تردد: ربما، لكنه منطق السوق، ويجب أن يعيه التجار في سوريا..
قلت: لا أفهم كثيراً، في التجارة، سيادة الرئيس، لكني اسمع وأقرأ عن سياسة الإغراق، والبيع بسعر أرخص لضرب المنافس واحتكار السوق..
ثم انني أقرأ الأمر بالسياسة، فهذا غزو تركي يتم على حساب أشهر و أشطر تجار الدنيا، تجار الشام..
قال الرئيس السوري: وأنا مثلك، لا أفهم كثيراً في التجارة، ولكنه منطق السوق.. ولقد آن لسوريا أن تنفتح على العالم..
ترددت قليلاً ثم عدت أكمل النقاش: سمعت أن كثيراً من الصناعيين في حلب قد نقلوا مصانعهم، أو بعضهم، الى مناطق في الجانب الآخر من الحدود، تركيا..
قال بشار الاسد: وهناك مائة وخمسون مصنعاً نقلها أصحابها الى مصر، حيث السوق أوسع والانتاج الحلبي مطلوب..
قلت بلهجة من يئس من احتمال التأثير في القرار: وماذا سيبقى، بعد هذا، في قلعة الصناعة الوطنية السورية.. حلب؟!
قال الرئيس السوري: هو منطق السوق، الارخص يبيع اكثر من الاغلى، وعلى التجار السوريين، وهم شطار كفاية، أن يأخذوا بالاعتبار هذا المنافس الوافد، لعل المواطن السوري يفيد مرتين..
اليوم، ها هي تركيا تبعث بقواتها العسكرية لاحتلال بعض الشمال السوري المحاذي لحدودها، بذريعة كبح غرور اكراد سوريا الذين ترعاهم الآن الولايات المتحدة الاميركية، التي ارسلت قواتها معززة بالطائرات والحوامات إلى الشرق السوري وبعض الشمال، ما بين الرقة التي فيها اقلية معدودة من الكرد، إلى ريف دير الزور، فإلى القامشلي والحسكة، في قرار يوحي بتشجيع اكراد سوريا على تكرار التجربة الفاشلة والمحزنة لأكراد العراق و..، وفي أحسن الاحوال، لمساومة دمشق، ومعها موسكو، على حصة لتركيا في “سوريا الجديدة”، خصوصا وقد خسرت في العراق جميعاً، وتحديداً مع اكراد الشمال الذين توجهوا بعد “الانتكاسة الاستقلالية” إلى إيران، فضلاً عن عودتهم إلى طرق باب بغداد مجدداً.
اليوم، وبمعزل عن الذكريات السوداء للماضي التركي مع العرب، لا بد من اظهار المخاوف على المستقبل.. فالمطامع التركية في سوريا لا تخفى على احد… وبالتأكيد فان مشكلة الاكراد في تركيا وأعدادهم تربو على اثني عشر مليونا، تزداد تعقيداً مع الانكار التركي المعبر عنه بالحملات العسكرية التي دمرت مدناً كثيرة وعشرات القرى في المناطق ذات الاكثرية الكردية.. وها هي تكمل الحرب على اكراد سوريا، بغض النظر عن “حملة التطمين” التي تقودها انقره والتي تقوم على منطق “لن تتوغل قواتنا اعمق من 12 كيلومتر، في الارض السورية.. ثم اننا ابلغنا موسكو بهذا التحرك، لذا سحبت قواتها مسبقا..”
وفي تزامن ملفت تصدر بعض المنظمات الارهابية السورية التي تحظى بالرعاية التركية الكاملة، بيانا تزيد فيها ارقام المنتمين اليها مرات ومرات وتعتبر ذاتها صاحبة “الحق الشرعية” بالسيادة على المناطق التي تقدمت اليها القوات التركية باتفاق معلن مع موسكو (وضمني مع دمشق؟) وأهمها ادلب وبعض اريافها وارياف حلب..
ومن أسف فان تركيا لم تكن يوماً في موقع الصديق للعرب.. بل انها، عمليا، قد اختارت الصداقة مع العدو الاسرائيلي ووثقت علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية والتجارية معه، بل وتقبلت منه اهانات علنية مصورة (استدعاء القائم بالأعمال التركي لديها وإجلاسه على كرسي منخفض امام مسؤول في وزارة خارجية العدو لإبلاغه احتجاجها على تصرف تركي معين..)
ثم أن تركيا اردوغان ما تزال تحتضن الاخوان المسلمين الهاربين من مصر اساسا كما من سائر الاقطار العربية وبينها سوريا، لاستخدامها في المشاغبة على من “يزعجها” او يحاول اعتراض مشاريعها التوسعية في الارض العربية.
الطريف أن انقره تروج، الآن، أن دخولها العسكري إلى عفرين تم بالتنسيق مع الروس، الذين سحبوا جنودهم منها منعاً للاحتكاك، وان موسكو لا بد أن تكون قد بلغت دمشق، حتى لا يُساء تفسير تدخلها وتعود الازمة التركية ـ السورية إلى نقطة البداية..