حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
ملّ اللبنانيّون انتظار «الردّ الكبير» الذي هدّدت به إيران و»حزب الله». بيد أنّ مَللهم لم يَطلْ، إذ سرعان ما بدأوا ينتظرون ضربة يقول الإسرائيليّون إنّهم سيوجهّونها. وهذا، على الأقلّ، ما حملته أقوال مسؤوليهم المسعورين، لا سيّما العسكريّين منهم. ففضلاً عن دعواتهم إلى «التركيز على الشمال» والكلام عن «نقل قوّات عسكريّة إليه»، يتزايد المقتنعون بأنّ محاولات آموس هوكشتاين لن تذلّل التوتّر على الحدود الجنوبيّة، ولن تعيد المُهجّرين إلى بيوتهم أو تثبّت العمل بالقرار 1701. والانتظار لأيٍّ من الضربتين مؤلم ومخيف، وهذا ما يفعله دائماً توقّع الحروب، لا سيّما وأنّ التلفزيونات ووسائل التواصل لا تتوقّف عن تداول صُوَر الفظائع التي ارتكبها الإسرائيليّون في غزّة ويرتكبونها.
بيد أنّ لبنان ليس مسرح الخيبة الأوحد. فالأسباب وراء الخوف والألم كثيرة وعابرة للحدود. وهذا لا يعني حتماً أنّ الحرب ستقع، لكنّه يعني أنّ وقوعها مرجّح، ونسبته مرتفعة. ذاك أنّ «الصفقة»، التي تنقّلت الاجتماعات بشأنها بين العواصم الاقليميّة والدوليّة، قد لا تُقلع. ولئن كان الدور الأميركيّ في ذلك موضع نقاش، يبقى أنّ التفاؤل الأميركيّ المعلن، ولأسباب أميركيّة بحتة، هو وحده ما يتحايل على إعلان حقيقة وضع «الصفقة».
في هذه الغضون، توشك معارك غزّة على الانتهاء، ومع انتهائها تنتهي غزّة نفسها التي لم تنفعها بشيءٍ أعمال «الإسناد» التي قدّمها «محور المقاومة». ومع المَشاهد التي تكسر القلب، الوافدة من القطاع، يتعاظم القلق على الضفّة الغربيّة التي يستبيحها الاستيطان والفوضى المنظّمة. وهذا فيما بات واضحاً، وبعد 11 شهراً من القتال، أنّ الكمّ الهائل من الضغوط والإدانات لم ينجح في فرض وقف إطلاق النار على بنيامين نتنياهو. فالأخير، المستفيد من المرحلة الانتقاليّة في الولايات المتّحدة، يتصرّف، بعجرفته الكريهة المعهودة، كأنّه يستدرج الآخرين، واحداً احداً، إلى الحرب. فهو يتسلّح، فضلاً عن آلته العسكريّة، بأرمادا أميركيّة لم تشهد المنطقة مثيلاً لها، قواعدَ بريّةً وحاملاتِ طائرات في البحر، وبموقع داخليّ تمكّن من استعادته بعد ضرباته الأمنيّة الأخيرة في بيروت وطهران، وبتخفّفه من الضغط الذي كان يمثّله رهائن 7 أكتوبر، أو من تبقّى منهم. ولئن كان رئيس حكومة إسرائيل صريحاً في تغليبه موضوع المعابر على سلامة المخطوفين، فإنّه، بفعله هذا، ينتزع أهمّ الأوراق المتبقّية في عهدة «حماس»، إن لم يكن آخر تلك الأوراق.
في المقابل، تطغى التأتأة، فضلاً عن التضارب والتسويف، على الكلام الإيرانيّ في صدد «الردّ»، ويُناط بالرئيس الجديد مسعود بازشكيان تليين السلوك بحيث يندرج في الصبر والحكمة والانفتاح على العالم، ممّا لم تُعرف به طهران قبلاً. ويتّضح، في الوقت نفسه، أنّ تأثير الموقف العربيّ، بالشعبيّ منه قبل الرسميّ، ليس أكبر من تأثير الموقف الفلسطينيّ نفسه، بالشعبيّ منه قبل الرسميّ. وهذا ما لا يُفسَّر بـ «العجز» و»القمع» و»التواطؤ» دون الالتفات إلى بعض تحوّلات العالم، بما فيه الشرق الأوسط، ونشوء أجيال ومصالح وقيم جديدة يجوز التحفّظ على الكثير منها من غير أن يجوز تجاهلها والتغافل عنها. أمّا مجتمعات المشرق التي يُفترض بها أن تشكّل ظهر المقاتلين وسندهم، فيسودها التمزّق والاحتراب الأهليّ، بالمعلن منه، كما في سوريّا، أو بالمضمر، كما في لبنان والعراق.
ويبقى أحد العناصر الأشدّ بشاعة في هذه اللوحة الداكنة ما كشفه مؤتمر الحزب الديمقراطيّ الأميركيّ الأخير في شيكاغو، مُظهراً للأسف محدوديّة التأثير الذي تمارسه حرب غزّة على الرأي العامّ الأميركيّ. فعلى رغم صورة إسرائيل الملطّخة، والحاجة الانتخابيّة الماسّة إلى الصوت المسلم في الولايات المتأرجحة، وتعبير قطب ديمقراطيّ كإليزابيت وارِن عن رأي معاكس، رفض المؤتمر المذكور أن يعطي الصوت الفلسطينيّ حقّ الكلام. وبهذا كان الحزب الديمقراطيّ، وهو البيئة العريضة للرأي العامّ المرشّح لدعم الحقّ الفلسطينيّ، يمنح أولويّته القاطعة للدولة العبريّة و»حقّها في الدفاع عن نفسها».
نعم، ليس العالم عادلاً، لكنْ ما دمنا نعيش فيه، ونخضع لتأثيراته، كان علينا أن نتعامل معه بالعادل فيه وغير العادل، من دون أن تمنعنا عن ذلك نظرةٌ رغبويّة إلى الذات وتقدير ضعيف الدقّة لفعّاليّتنا في العالم. ولا يقال ذلك للتيئيس أو لنشر «ثقافة الهزيمة والاستسلام»، لكنّه يقال خوفاً على حياة البشر الذين استُرخص الكثيرون منهم. وهذا علماً بأنّ المطالبة بوقف العمليّة الانتحاريّة التي انطلقت يوم 7 أكتوبر عند حدٍّ ربّما باتت متأخّرة جدّاً، إذ حتّى لو أوقفها الإيرانيّون وأدواتهم فإنّ نتانياهو، الباحث عن إدامة الحرب، قد لا يوقفها. مع هذا يبقى مُلحّاً تعبير المعبّرين عن الخوف على حياة البشر ممّن يُقتلون غصباً عنهم في معارك غيرهم. أمّا عشّاق الموت فلديهم بالطبع كلّ الحقّ في التصرّف بحياتهم، وبالطريقة التي يختارونها، شرط أن لا يأخذوا أحداً في طريقهم ولو أعلنوه شهيداً.