عولمة القطاع الخاص للجيوش الخاصة والمرتزقة

1

جميل عبدالله
من خلال متابعتي لمسار الجيوش النظامية في جميع بلدان العالم وقوتها اللوجستية وتكنيكها التسلحي الناجم من مصانع الاسلحة المعروفة بالعالم , والتي تتباين من دولة الى دولة آخرى من حيث أمتلاك التقنية الحديثة ومن حيث التسابق التسلحي في ميدان استخدام القوة والسيطرة , أو للدفاع عن السيادة والقومية .

بينما مؤسسات الأمم المتحدة تناضل من أجل الحد من تطوير الأسلحة وتصديرها , لأن المجتمع الدولي يحتاج الى الآمان والأستقرار من خلال النضال من أجل السلام العالمي . لكن واقع الحال غير ذلك , نجد الدول الكبرى والتي تدعي بالحد من الاسلحة وتطويرها , هي منتجة للأسلحة المتطورة وخاصة التطور النووي وذلك من أجل السيطرة على العالم وفرض أرادتها من خلال القوة .

كانت آواخر القرن الثامن عشر , كما دون التاريخ , عصر ألآزمات لأنظمة الحكم القديمة ونظمها الاقتصادية في أوروبا . وكانت العقود الأخيرة من ذلك القرن حافلة بحركات التململ والاضطرابات السياسية التي قاربت أحياناً حدود التمرد , وبالتحركات المطالب بالاستقلال في المستعمرات , وقد بلغت أحياناً حد المطالبة بألانفصال , لم يقتصر ذلك على الولايات المتحدة , بل شمل أيضاً ايرلندا وبلجيكا وهولندا وجنيف وحتى كما تقول بعض التحليلات أنكلترا .

كان في التمايز المدهش بين هذه الكوكبة من حركات التململ السياسي ما دفع بعض المؤرخين المحدثين إلى الحديث عن ” عصر الثورة الديمقراطية ” التي كانت الثورة الفرنسية إحداها , وإن كانت الأعمق وقعاً والأبعد اثراً .

أما حديثنا اليوم عن عصر الواحد والعشرين , عصر الحداثة والمدنية وحقوق الإنسان , لكن المصالح السياسية ونوع الرجال الذين بعيدين كل البعد عن الأفكار الأيديولوجية , والذين تسلطوا على زمام القيادات في بعض الدول الكبرى , وفي العالم الآسيوي المتخذين من الدين ستاراً لهم . في هذا العصر بالذات تفاقمت الآزمات والفوضى وعدم احترام السيادات …… وصعود مفاهيم الارهاب تحت مظلة الآستغلال والمصالح , وتخبطوا في سياسة الفوضى وصناعة الارهاب .

مفاهيم الأرهاب كسرت شوكة القانون وحجمت من الحريات , واستخدمت لغزو الدول واستغلال مواردها , ومحت مفاهيم القانون الدولي وقلصت حركة مؤسسات الأمم المتحدة , واعطت أقبح صورة لمفاهيم الإنسانية ….. وتدمير الحضارات . والأسوء من ذلك استندوا على العولمة لعبور جيوش القطاع الخاص المنتج من المقاولين العساكر لتغير الطبوغرافية السياسية والسيادية .

سوف نستند لبحوث بعض الاصدقاء في مجال المرتزقة الجدد ….. والجيوش الخاصة وما تعنيه للنظام الدولي , وخاصةً تأسيس تنظيم القاعدة الارهابية , وداعش الارهابي على هذا المنوال وتحت الحروب ” بالوكالة ” , لحلول الازمات المستعصية .
أسس النظام الدولي الراهن في مجمله علي فكرة السوق الحر، والتي كان من ضمن ما أدت إليه أنها مهدت الطريق لخصخصة الأمن، وبزوغ الشركات العسكرية الخاصة. فالدولة في صورتها الحالية لم تعد هي وحدها التي تحتكر استخدام القوة العسكرية. ومن ثم، بدت الشركات العسكرية الخاصة في الكثير من الأحيان أكثر قدرة علي إدارة الحروب، والإسهام في تكوين الجيوش. وقد ساعد في التكريس لهذا الدور تنامي حدة التهديدات الأمنية، وتراجع قدرة الدولة منفردة في مواجهة تلك التحديات.

وفي هذا السياق، يتناول شون ماكفيت الشخص البارز في مجلس الأطلسي Atlantic Council- ظاهرة خصخصة الحروب والأمن في النظام الدولي المعاصر. ويقدم ماكفيت رؤية يمتزج فيها الجانب الأكاديمي، واستعراض تطور ظاهرة المرتزقة، عبر التاريخ، مع الخبرة العملية المستمدة من فترة عمله كمتعاقد عسكري بشركة داين كورب الدولية DynCorp International. ينطلق ماكفيت في كتابه من فرضية رئيسية، مفادها أن ملامح النظام الدولي الراهن، والخلفية الفلسفية للنظام الرأسمالي ستعززان في المستقبل أدوار القطاع الخاص في المجال العسكري.
أدوار المرتزقة الجدد:

شهدت السنوات الأخيرة، ولاسيما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تعاظم أدوار الشركات العسكرية الخاصة التي باتت توفر للمستهلكين مجموعة واسعة من الخدمات العسكرية والأمنية، البعض منها ينحصر في نطاق أعمال الأمن الداخلي، والبعض الآخر يشمل عمليات عسكرية خارجية.

وفي هذا الإطار، يميز ماكفيت بين عناصر المرتزقة التي تنفذ العمليات العسكرية، وتستعرض القوة، والمقاولين العسكريين الذين يضطلعون بمهام تدريب وتطوير قدرات الجيوش والقوات الأمنية. وثمة نوع ثالث يتمثل في الشركات التي تقدم الخدمات العامة، علي غرار الخدمات اللوجيستية، والصيانة، والنقل، والبناء، والخدمات غير القتالية الأخري التي لا ترتبط مباشرة بالعمليات القتالية. وبالرغم من هذا التمييز، فإن هذا لا ينفي إمكانية التداخل بين النماذج الثلاثة، بحيث تكون الشركة منخرطة في كافة هذه المهام.

ويفترض ماكفيت أن الطلب علي تلك الخدمات العسكرية والأمنية المتنوعة ارتهن بعاملين جوهريين، أولهما: طبيعة الأزمات التي يواجهها المجتمع الدولي، وتعويل الكثير من الفاعلين علي الحلول العسكرية في تسوية المشكلات. وتجلي هذا الأمر كثيرا في نمط إدارة الولايات المتحدة لعلاقاتها مع العراق وأفغانستان. فقد اتخذت الولايات المتحدة قرارها بغزو كلتا الدولتين
.
ومع تطورات الحربين، تزايد اعتماد الولايات المتحدة علي الشركات الخاصة في العمليات العسكرية هناك، خاصة مع الاعتقاد المسيطر علي القيادة الأمريكية آنذاك بأن الشركات العسكرية الخاصة ستساعد الولايات المتحدة في توسيع وجودها العسكري بوتيرة متسارعة وبتكلفة أقل. ويدلل ماكفيت علي هذا الأمر بالإشارة إلي تعاقد إدارة جورج دبليو بوش مع نصف المقاتلين في العراق من الشركات الخاصة، فيما وصلت نسبتهم في أفغانستان إلى 70٪.

ويرتبط العامل الثاني والأخير بالسمات الذاتية للشركات العسكرية الخاصة، إذ إن هذه الشركات تتسم بدرجة عالية من الاحترافية والانضباط تجعلها تتفوق علي بعض الجيوش النظامية، حيث تتم هيكلة هذه الشركات وتكوينها ككيانات متعددة الجنسيات، مشاركة في النظام المالي العالمي، وهو ما يجعلها مختلفة عن الصورة النمطية التقليدية للمرتزقة في العصور القديمة. كما أن هذه الشركات تقدم للدول بديلا عسكريا ذا تكلفة أقل (مقارنة بالجيوش النظامية)، وهو ما يرجعه ماكفيت إلى حرية تلك الشركات في الابتكار، والقدرة علي التطوير في غضون وقت قصير، فضلا عن تحررها من الجمود البيروقراطي الذي تعانيه بعض الدول.
تجارب دولية:

يستدعي ماكفيت تجربتي ليبيريا والصومال للتدليل علي الدور الذي تقوم به الشركات العسكرية الخاصة. فعقب انتهاء الحرب الليبيرية الثانية عام 2003، استعانت الولايات المتحدة بالقطاع الخاص لتأسيس جيش وطني لليبيريا يتسم بدرجة من الكفاءة، وعدم الانخراط في الصراعات، وتم اختيار شركة “داين كورب” لإعادة تأسيس الجيش الوطني الليبيري. حيث ذكر الكاتب أن “الشركة كانت المصمم الرئيسي لبرنامج تأسيس الجيش”. ويضيف أن “هذا القرار كان بمنزلة أول مرة خلال مئتي عام تستأجر فيها دولة ذات سيادة شركة مقاولات خاصة لتكوين القوات المسلحة لدولة أخري ذات سيادة”.

ويشير ماكفيت إلى أن البرنامج أثبت نجاحه بدرجة كبيرة في تكوين جيش يحافظ علي السلام والاستقرار الداخلي. وقد أسهم في نجاح هذا البرنامج الإجراءات التي اتخذتها الشركة، ومن ضمنها الضغط علي الحكومة الليبيرية لإصدار أمر تنفيذي بتسريح الجيش القديم، والتأكد من عدم اشتراك المجندين الجدد في أي انتهاكات لحقوق الإنسان في الماضي، بالإضافة إلى إدراج التربية المدنية بجانب التدريب الأساسي في البرنامج.

وعلي النقيض من هذه التجربة، تبدو التجربة الصومالية، التي تعرضت للكثير من الإخفاقات، حيث لعبت الشركات العسكرية دورا في التكريس للفوضي هناك.
فعقب انسحاب قوات حفظ السلام من الصومال في عام 1995، تداخل في المعادلة الأمنية الكثير من الفاعلين، لاسيما مع غياب فكرة الدولة، وبالتالي لم يكن من الممكن تشكيل جيش وطني موحد (علي غرار ليبيريا). ومن ثم، وجدنا أن إقليمي صوماليلاند وبونتلاند يتعاقدان مع شركات أمن خاصة للمساعدة في مواجهة عمليات القرصنة. كما تعاقدت الحكومة المركزية الضعيفة مع شركات عسكرية وَّردت الأسلحة والمعدات العسكرية إلى داخل الصومال، فيما استأجرت الإدارة الأمريكية -بحسب ماكفيت- شركة “داين كورب” لتدريب وتسليح قوات حفظ السلام من أوغندا وبوروندي، ونشرها في الصومال.

تلك الحالة الفوضوية التي عاناها الصومال، ومن بعده العراق، والجرائم التي تورطت فيها شركة “بلاك ووتر” هناك، أثارت الإشكاليات التي يمكن أن تؤدي إليها الشركات العسكرية الخاصة. إذ إن إنخرط تلك الشركات في الصراعات يفضي إلى تعاظم معدلات العنف، وتنامي اعتماد الحكومات علي نمط الحروب بالوكالة في التفاعل مع السياقات السياسية، وبالتبعية المزيد من الفوضوية داخل النظام الدولي بصورة قد تجتر معها مشاهد العصور الوسطي (أو ما يطلق عليها ماكفيت العصور الوسطي الجديدة)، عندما “كان المحاربون الخاصون هم من يقرر نتائج الصراعات”. وهكذا، سيصبح التحدي الرئيسي للدول هو التعاطي مع تحدي الشركات العسكرية الخاصة، عبر إيجاد صيغة مواتية تقلل من مخاطر أنشطة تلك الشركات، وتتيح الاستفادة منها، خاصة فيما يتعلق بدور المقاولين العسكريين في تكوين الجيوش بدلا من قيادتها.

التعليقات معطلة.