دأب السوريون خلال مئات السنين على الاحتفاء بعيد الفطر وطقوسه كجزء من الموروث الإسلامي – العربي عامةً. ورغم أنّ الحرب غيّرت بصورة جزئية من طقوس العيد ليختلف بين منطقة وأخرى داخل البلاد، إلّا أنّ الاحتفالات السنوية استمرت بحدّها الأدنى الممكن ضمن إمكانات الناس، لكن ليس في هذا العيد اليوم! اشتدت المحنة على السوريين، خلال الأعوام الماضية، لتلامس كل جوانب حياتهم، بل ولتحاصر معظمهم بالفقر والحاجة والعوز في الغذاء والمعيشة، فأثّرت على عاداتهم، وسقطت بعض القدسيات المتوارثة تحت ضغوط شتى. والبيوت التي كانت تزخر بالخير وتفوح من مطابخها روائح أشهى المأكولات باتت فارغة في معظمها من الأساسيات، ولم يعد بمقدور الأسر تأمين الحاجات التي تقيها من الجوع.
لم يبقَ سعيداًعيد الفطر السعيد لم يبقَ سعيداً عند السوريين بجيوبهم الفارغة، خصوصاً بعد الضرائب المرتفعة والفواتير والمواصلات، أمام أجور شهرية لموظفين هي الأقل عالمياً. يرتبط عيد الفطر في طقوسه المجتمعية بأمرين اثنين، الأول امتلاك أصناف متعددة من حلويات العيد، والثاني هو الحالة الاجتماعية وتبادل الزيارات والتهاني والتبريكات والتآلف والمودة، وبين الاثنين خلقت الأحوال مشكلةً كبرى. والمشكلة هي أنّ نسبة لا يستهان بها من الأسر السورية غير قادرة على صنع الحلويات أو شرائها جاهزة كما اعتادت، بعدما حلّقت أسعارها فوق قدرتهم ورواتبهم وتوقعاتهم، ففي المتوسط بلغ سعر الكيلو من حلويات العيد أي معمول الفستق الحلبي نحو 20 دولاراً أميركياً، أي بقدر راتب الموظف الشهري. أما أكثرها شعبيةً فبلغ سعر الكيلو منها 5 دولارات وهي حلويات (الجوزية) التي تتفق ربّات المنازل أنّها غير صالحة للضيافة. أما الأعلى سعراً فكان لبعض أنواع الشوكولا التي قاربت حاجز الـ40 دولاراً. ربّة المنزلأمّ عامر ربّة منزل حائزة على إجازة جامعية في الاقتصاد، كانت موظفةً حكومية قبل أن تستقيل حين صار راتبها يعادل أجور المواصلات فقط، مكتفية بالمرتب التقاعدي، وكما باقي سيدات المنازل وجدت نفسها أمام مشكلة في هذا العيد. تقول أم عامر لـ”النهار العربي”: “أستطيع لأيامٍ أن أشرح وأفند كأكاديمية حال الاقتصاد السوري، وهناك عشرات المتخصصين، لكن أحداً لا يريد أن يسمع المشورة والنصح وآراء بقية الناس. الحكومة لا تستمع وتعتقد أنّ سياساتها فقط هي الصائبة، وهي بالضبط السياسة التي جعلتني غير قادرة على إدخال الحلويات إلى منزلي هذا العيد، بل وفي العيد الفائت أيضاً”. وتضيف: “جرّبت شراء حلويات جاهزة، لكني صدمت بالأسعار، لم أرَ السوق ملتهبة بأسعارها هكذا من قبل، ثمّة شيء من الجنون في التسعير ومعدل التضخم الهائل الذي ينذر بكارثة ستجعلنا غداً نشتهي ما كان حتى اليوم متاحاً. ولأني أريد الحفاظ على شكل منزلنا ومظهر وظيفة زوجي المهندس، لم أستطع شراء حلويات شعبية أو حتى صالحة، فكيف سأقدّمها لضيوفي؟”. وتتابع: “اعتقد أنّ فقر الحال أفضل من فقر الذوق في تقديم الضيافة لأناس مهنئين بالعيد، لأنّ عاداتنا تقتضي ردّ الزيارة بزيارة، فهل هناك أحدٌ قادر على تقديم حلوياتٍ كنا نفاخر بجودتها قبل سنوات؟ حسناً، لا بأس بعصير فقط، وليس طبيعياً بالتأكيد، بل ذلك التجاري المغلف”.
ثلاثة كيلوات تكفيسميرة خليل، ربّة منزل أخرى في دمشق، زارت أسواقاً عدة لتتبضع شيئاً من حلويات العيد، ولكنّها عادت خالية الوفاض إلى منزلها، مستغربةً الجنون في الأسعار كما تصف الحال. وقالت: “خرجت ومعي 150 ألف ليرة سورية، (10 دولارات)، اعتقدت أني سأعود بما يكفي ويزيد من الحلويات، ولكني وجدت أني لن أحصل على كيلو واحد من النوع الجيد”. تضحك سميرة على الواقع وتقول: “كيلو الحلويات الأول يتناوله الأطفال عشية العيد، فلا يعوّل عليه أساساً. في العيد نحتاج بضعة كيلوغرامات من الحلويات، وعليها أن تكون من أصناف متعددة، فتحايلت بشراء كيلوغرامين من حلاوة الجبنة بـ140 ألفاً، واستدنت مبلغاً مقارباً لأشتري كيلو من حلويات عش البلبل”. حلول استباقية“كان معلوماً سلفاً أنّ العيد سيكون في شهر نيسان (أبريل)، وكنت أعلم يقيناً أني سأقع بمأزق لتأمين موائد الشهر الرمضاني اليومية وأمام متطلبات العيد من حلويات وضيافة وملابس للأطفال وبقية الأشياء، فشرعت بتنفيذ خطتي مبكراً”، يقول المهندس جمعة ياسين لـ”النهار العربي”. ويضيف ياسين: “بدأت منذ شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بترشيد استهلاكنا الأسري إلى الحد الملائم للحال من دون تقصير، مستغلاً ارتفاع راتبي الذي هو ضعف الحكومي كوني أعمل في القطاع الخاص، وكذلك حصولي على سلفتين ماليتين، وكان ذلك لأني أعلم أنّ كثيراً من زملائي سيأتون للزيارة في العيد، فعليّ أن أقدّم أفضل ضيافة ممكنة لهم”. ويتابع: “لن أقول سوى أنّ شهر رمضان مع مستلزمات العيد كلّفني أكثر من 7 ملايين ليرة سورية (500 دولار)، وأعلم أنّ الرقم خرافي بالنسبة لبقية السوريين، وبأنّه يكسر الظهر، ولكن هذا صار شكل المعيشة في سوريا، وهكذا سأنقذ نفسي ومظهري أمام زواري، أما في الأشهر المقبلة، فسأكون منشغلاً بسداد السلفتين”. في مكان آخرعلى الضفة الأخرى من المجتمع لا شك أنّ ثمة عائلات أخرى تمتلك المال لأسباب متنوعة تفرضها ظروف التنوع الوظيفي العام، فهناك أسرٌ تتلقّى أموالاً من أبنائها في الخارج، وثمة موظفون في منشآت هامة تتبع للقطاع الخاص، وغيرهم في مؤسسات تتبع للأمم المتحدة وتمنح رواتب سخيّة بالدولار. لا تحمّل منى جرّان نفسها عناء الأسر السورية، وهي الموظفة في الأمم المتحدة، ولكنها في الوقت نفسه تؤكّد أنّها لا تتمكن من أن تنفصل عن معاناتهم. وتقول إنّ الحظ وحده وقف معها في تأمينها لوظيفتها، وإلّا كانت الآن إلى جانب غيرها ممن يبحثون عن لقمة عيش لا تتوافر بسهولة.
الغني جائعٌ خجلاًتقول منى: “لا أنفك أفكر بالناس، ولا أنفك أحزن إذ لم يبقَ لي صديق لم يهاجر، هذا البلد ابتلع الجميع وفرزنا وفق طبقتين لا ثالث لهما، واحدة تملك مقومات البقاء ومستلزماته، وأخرى تحت خطر المجاعة. لم يعد لدينا في هذه البلاد طبقة وسطى تحمي من تحتها من التآكل وتوافق مع من فوقها في تسيير التوازن المجتمعي. صرنا فقط جائع وغير جائع”. وتضيف: “اشتريت حلويات للعيد. نعم فعلت، وأفضلها أيضاً، ولكن ماذا يعني ذلك؟ لا يعني سوى أنّ العمل الفردي هو الحل لمعضلتنا المركبة، وبعدما اشتريت الحلويات أول شيء فكرت به هو زوارنا، ماذا سيشعرون؟ هل سيقولون ما هذا البذخ والناس تموت جوعاً؟ هل سأضعهم في مأزق كيف سيردّون الضيافة بمثلها؟ ألف فكرة صارت تعصف برأسي، والخلاصة واحدة: الغني المنتمي إلى هذا البلد هو كغيره جائعٌ ولكن خجولاً”.