عيد ميلاد سعيد.. هل من حق الفقراء أن يفرحوا؟!

2

ناهد صلاح

 

في أول أفلامها الروائية الطويلة “هابي بيرث داي/ عيد ميلاد سعيد” (عُرض مؤخرًا في مهرجان الجونة، واستُهل عرضه العالمي في مهرجان تريبيكا بأمريكا في يونيو 2025، حيث حصل على عدة جوائز، منها: أفضل فيلم روائي دولي، أفضل سيناريو، وجائزة نورا إيفرون للمخرجة، كما تم اختياره ليمثل مصر في سباق الأوسكار عن فئة الفيلم الدولي غير الناطق بالإنجليزية)، تقدّم المخرجة سارة جوهر عملًا لافتًا يلتقط من تفاصيل الحياة الهامشية لحظة مكثّفة عن الحرمان والحق في الفرح.

هذا الالتقاط في الفيلم، الذي شاركت سارة جوهر كتابته مع محمد دياب، وقام ببطولته: نيللي كريم، حنان مطاوع، حنان يوسف، شريف سلامة، خديجة أحمد، والطفلة الاكتشاف ضحى رمضان بطلة الفيلم، إضافة إلى بقية العناصر الفنية مثل مدير التصوير سيف الدين خالد، والمونتير أحمد حافظ، يبدأ من عند توحة (ضحى رمضان)، الطفلة ذات الثمانية أعوام التي تعمل خادمة في منزل أسرة ثرية. نراها تتوازى في استهلال الفيلم مع طفلة أخرى تتحدثان عن الاستعداد لإقامة حفل عيد ميلاد، لكن بعد قليل نكتشف أن إحداهما هي توحة الخادمة، والأخرى هي نيللي (خديجة أحمد) صاحبة عيد الميلاد وابنة الأسرة الثرية (الأم نيللي كريم، الجدة حنان يوسف).

الأسرة تُعد للاحتفال، وتوحة التي تظهر منفصلة عن الواقع الحقيقي تحلم بهذه الليلة وترغبها مميزة، كما ترغب تلك الأمنية الغِرّيرة بأن تحتفل هي الأخرى بنفسها، أن يُقال لها: “كل سنة وإنتِ طيبة”.

الفيلم، الذي يدور في يوم واحد مشحون بالأحداث السريعة والمتلاحقة، من خلاله تضع سارة جوهر الكاميرا في مستوى نظر هذه الطفلة “توحة”، تترك العالم يتكشف من ارتفاعٍ بسيط لا يتجاوز المتر الواحد. من هناك، يبدو كل شيء أضخم وأقسى: الوجوه، الأوامر، الفوارق، والاحتفالات التي لا تعني الفقراء بشيء سوى أنها تجسّد المسافة التي تفصلهم عن الفرح.

هذا المستوى من نظر الخادمة الصغيرة التي تُخفي في جوانحها أمنيتها الخجولة بأن تحتفل هي أيضًا بعيد ميلادها، يُصبح محورًا عميقًا عن الفوارق الطبقية في مجتمعٍ يرى الفرح امتيازًا لا حقًا. بناءً على هذه المفارقة تتوالى المشاهد كما لو كانت تتنفس بلطفٍ مؤلم، تُفضّل الهمس على الصراخ، الألوان باهتة أحيانًا كالذاكرة التي تخشى أن تُظهر حزنها، والضوء في كثير من اللقطات يأتي من شقوقٍ ضيقة، كأنه تسلّل سرّي للحياة إلى عالمٍ مغلق، بما يخبرنا أن الفيلم، في جوهره، ليس عن عيد ميلاد، بل عن الحق في الفرح.

على المستوى السردي، يقدّم الفيلم صورة من الداخل لصراع الفوارق الطبقية والاجتماعية التي تفرّق بين أفراد المجتمع، مُعتمدًا على بنية بسيطة نسبيًا: طفلة ببراءة تسعى لتحقيق أمنية ضمن حدود الواقع الصعب. لكن ما يجعله أقوى هو التداخل بين العالمين: عالم الأسرة الثرية وعالم الطفلة الخادمة، والمفارقات الدقيقة في توقعات كل طرف وسلوكياته.

التوتر الدرامي ينبع من التصادم بين الرغبة البريئة لـ”توحة” في الاحتفاء، والحدود المجتمعية التي تمنعها عمليًا من ذلك. كما أن الصداقات التي تنشأ عبر الطبقات المختلفة تحمل مخاطرة على مستوى القبول والمكانة الاجتماعية، مما يُوجِد توترًا ضمنيًا يدفع الأحداث نحو ذروتها.

مشاهد الجغرافيا العشوائية والصيد والمشوار الشاق الذي قطعته الطفلة معرضةً نفسها للخطر من أجل العودة إلى بيت العائلة الثرية، في مقابل مشاهد هذا البيت في كومباوند الأثرياء، هذا التوازي والتقاطع بينهما مصنوعان بحرفية مقصودة لتحسّس الفارق بينهما.

من الناحية البصرية، يُلاحظ أن المخرجة اختارت التنفيذ البصري الذي يخدم البساطة والعاطفة دون زخرفةٍ مبالغٍ فيها. الكاميرا والتصوير امتنعا عن المبالغة في التجميل، بل سُمِح للمشاهد أن يشعر بقربٍ من الواقع، مع لمساتٍ فنية تُبرز التناقض بين أماكن الفرح والمكانة. أيضًا، التوتر بين الضوء والظل، بين الألوان الباهتة والمشرقة في المشاهد الاحتفالية، يمكن تفسيره كرمزيةٍ للعاطفة في مواجهة الواقع القاسي.

بكادرات حميمة، تنسج سارة جوهر عالمًا بصريًا يوازن بين البساطة والرمز، فمثلًا الضوء الذي يتسرّب إلى وجه الطفلة لا يضيء المكان فحسب، بل يُعلن عن وجودها، عن كونها إنسانًا مرئيًا وسط مجتمعٍ يتقن إخفاء الفقراء خلف الأبواب المغلقة. فالحزن في هذا الفيلم ليس استجداءً للتعاطف، بل مرآةً لما يمكن أن نراه كل يوم ونتجاهله.

فنحن إزاء فيلم لا يحكي حكاية خادمة صغيرة فقيرة فحسب، بل يتحدث عن نظامٍ اجتماعيّ كامل. كل شمعة تُضاء في الفيلم تحمل سؤالًا عن العدالة: لماذا يحق للبعض أن يحتفلوا دومًا بينما يظل الآخرون في الظل؟.

توحة، وهي الشخصية المحورية، تمثل البراءة والذكاء العاطفي في مواجهة القسوة الاجتماعية. إنها لا تطالب بالكثير، فقط فرصة للاحتفال والبقاء حرةً في أحلامها. من خلال أداء ضحى رمضان التي تجسّد دور توحة، تتجلّى بطولة الإنسان الصغير أمام عالمٍ كبير يجهل البساطة.

المخرجة تعاملت مع الممثلة الطفلة بحسٍّ أموميٍّ وفنيٍّ في آنٍ واحد، فحوّلتها إلى بؤرة المشهد ومركزه. بدا هذا الأمر نتيجة تدريبٍ كبيرٍ وتوجيهٍ متزنٍ ومحترف، وعن طريق هذا الحضور اللافت للطفلة، أعادت سارة جوهر تعريف البطولة في السينما الاجتماعية، فهي هنا ليست تعبيرًا عن الثورة أو الغضب، بل القدرة على الحلم رغم الهزيمة.

فالاحتفال الصغير الذي سعت توحة إلى صُنعه لم يكن طقسًا للبهجة والفرح فحسب، بل كان فعل مقاومةٍ ناعمٍ ضد عالمٍ يُقصيها من دائرة الضوء. في مقابل نيللي، الطفلة الأخرى التي تمثل ذلك الجانب الذي لا يُدرك تمامًا الفوارق التي تفرضها الطبقات، لكنها في النهاية تتأثر بها، بينما الأهل يمثلون البنية الاجتماعية التي تحمي التراتبية الطبقية، سواء بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ، من خلال ممارساتٍ صغيرةٍ يومية تُشكّل الحواجز بين البشر.

صحيح أن ضحى رمضان قدّمت أداءً مدهشًا يتوزع بين الحس الطفولي البريء الذي ربما لا يعي ما يحدث حوله، وبين حقيقة واقعها، بما يثبت موهبتها وكذلك قدرة المخرجين حين يمنحون الأطفال الفرصة والثقة والتدريب كما قلت من قبل، لكن هناك أيضًا أداء متفاوت للشخصيات الرئيسية في الفيلم.

تأتي في مقدمتها الفنانة حنان مطاوع، التي قدمت واحدًا من أكثر أدوارها نضجًا وصدقًا، إذ تجسد شخصية امرأة تواجه هشاشتها الداخلية في لحظة تبدو عادية ظاهريًا، يوم عيد الميلاد، لكنها تتحول إلى مرآةٍ تكشف ما تراكم من خيبات وأحلامٍ مؤجلة ووحدةٍ مؤلمة.

حنان تمتلك حضورًا طاغيًا بلا افتعال، فهي تبني الشخصية من الداخل إلى الخارج، عبر نظراتها المرهقة، وصمتها الذي يصرخ أكثر من الكلمات، وتعبيرات وجهها التي تنقل تدرّج الانفعالات بين الحزن والحنين والرغبة في الخلاص. أداؤها هنا يذكّر بأداءاتها النفسية العميقة في أعمالٍ كثيرة لم تخذلنا فيها كمشاهدين. هنا تؤكد على تحويل الدور إلى تجربةٍ إنسانيةٍ كاملة، وتبدو كذلك أكثر تجريدًا كامرأةٍ معلّقة بين ما تريد وما فُرض عليها.

كذلك قدّمت نيللي كريم أداءً شديد الحساسية والاتزان، بنت الشخصية على التفاصيل الصغيرة: النظرات المرهقة، والانفعال المكبوت، وطريقة الكلام البطيئة التي تعبّر عن امرأةٍ على حافة الانفجار الداخلي. في حضورٍ مؤثر، جاءت حنان يوسف لتمثل جسرًا بين الماضي والواقع، بينما قدّم شريف سلامة دور الزوج، دورًا معقدًا في بساطته الظاهرية، فهو ليس خصمًا ولا بطلًا، أدّى الشخصية بانضباطٍ نفسيٍّ عالٍ، مع تحكمٍ في الانفعال ونبرة الصوت، ليجسّد التباعد العاطفي بينه وبين زوجته من دون افتعال.

الفيلم إذًا ليس مجرد خطوةٍ أولى لمخرجةٍ واعدة، بل إعلان ولادة حسٍّ نسائيٍّ جديدٍ في السينما المصرية، وعيٌ بأن التفاصيل الصغيرة يمكن أن تُحدث صدىً أكبر من الخُطب المباشرة، وأن الطفلة التي تزيّن غرفة الآخرين قادرة على تزيين وعينا نحن بما هو أكثر بقاءً من الاحتفال نفسه.

ربما تتقاطع حالة الفيلم بشكلٍ ما مع تجارب أخرى في السينما المصرية والعربية المعاصرة، مثلًا مع اللبناني “كفر ناحوم” (نادين لبكي، 2018)، فكلا الفيلمين ينطلق من عين طفلٍ يرى الظلم دون أن يفهمه تمامًا. في “كفرناحوم”، يواجه الطفل زين عالمًا بلا رحمة في شوارع بيروت، بينما تواجه توحة عالمًا أنيقًا يخفي قسوته تحت الألوان والزينة.

لبكي مالت إلى الواقعية القاسية، بينما اختارت جوهر الواقعية الشعرية الهادئة، ما جعل الألم في فيلمها أكثر خفوتًا لكنه أكثر نفاذًا.

أو مع “يوم الدين” (2018) إخراج المصري أبو بكر شوقي، إذ يجمعها الإيمان بأن الهامشيّ يستحق البطولة، وأن الجمال يمكن أن يولد من الندبة. بطل “يوم الدين” رجل منبوذ يسعى للعودة إلى جذوره، بينما بطلة “عيد ميلاد سعيد” طفلة تبحث عن لحظة احتفالٍ تثبت أنها موجودة في هذا العالم.

من خلال هذا السياق المقارن، يظهر أن فيلم “عيد ميلاد سعيد” يضيف نغمةً جديدة إلى السينما الاجتماعية العربية: نغمةً دقيقة تحاول أن تطرح حكايتها برهافة، فتحكي عن التمييز الطبقي والعدالة الاجتماعية من خلال حالةٍ إنسانية، كذلك تتناول عمالة الأطفال والأمل والصراع بين العقلانية والعاطفة. فكثيرٌ من ممارسات “الكبار” تبدو معقولة ضمن منظومتهم، لكنها تُصطدم في لحظاتٍ بالعاطفة البريئة لتُظهِر هشاشة تلك العقلانية.

هذا الفيلم، بعمقه الإنساني، يعلن قدوم صوتٍ نسائيٍّ جديدٍ في السينما المصرية، أبدى شجاعةً في التصوير والموضوع، دون الخوف من الفجوة التي قد تواجهها بين الطموح والواقع.

التعليقات معطلة.