عيد يليق بآمال الأمة

5

علي عبيد


علي عبيد الهاملي 

 

أكتب هذا المقال ونحن نعيش أجواء الاحتفال بعيد الفطر المبارك، أعاده الله عليكم باليمن والبركة، محاولاً الاقتراب من الواقع الذي يبتعد عن الأحلام التي عشناها عندما كنا أصغر سنّاً، معترفاً بأننا كلما أوغلنا في العمر بدت لنا هذه الأحلام أبعد مما كنا نتصور. أقصد أحلام الأمة لا أحلامنا الشخصية التي تتضاءل أمام تلك الأحلام الكبرى التي تمتد بحيث لا يدركها النظر. لا أقول هذا إغراقاً في التشاؤم، ولكن محاولةً لتلمس الأخطاء التي نكرر ارتكابها جيلاً بعد جيلٍ وزمناً بعد زمن.

هلّ علينا عيد الفطر المبارك هذا العام، كما يهلّ كل عام، محمَّلاً بفيض من المعاني الروحية والإنسانية، لكنّه حمل في طيّاته أيضاً مرارةً، وتبايناتٍ صارخةً بين الفرح والحزن، والأمن والاضطراب، والحاضر المنقوص والمستقبل المعلّق.

في بعض العواصم العربية، استقبلت المصلَّيات والمساجد جموع المصلين في صباحات العيد، وعانقت وجوه الأطفال فرحة الثياب الجديدة والحلوى والهدايا، وحرص الناس على صلة الأرحام، كأنّ العيد لحظة صفاء يحاول فيها الإنسان العربي المسلم أن يلتقط أنفاسه وسط زحام الحياة وضجيج الأحداث. حدث هذا في بعض أنحاء الوطن العربي، حيث الاستقرار نعمة يُحمد الله عليها، وحيث تبدو مظاهر العيد امتداداً للسكينة، وتبدو المجالس عامرةً بالتسامح والكرم والمودة، في مشهدٍ يكاد يختصر معاني العيد وجوهره الحقيقي.

لكنّ العيد في أنحاء أخرى من الوطن العربي أطلّ على شعوبٍ أرهقتها الحروب، وأضناها الفقر، وضاعت منها فرحة العيد وسط أنقاض البيوت، ودموع الأمهات، وأحزان المدن المنكوبة، حيث الجراح لا تندمل، وحيث يتحوّل العيد من مناسبة فرحٍ إلى محطة وجع، وحيث لا تُفرش موائد العيد في البيوت لأن البيوت ذاتها لم تعد قائمة، والطرق والأسواق خاوية إلا من أنين الثكالى وأزيز الرصاص وأصوات الطائرات. ومع ذلك، يصرّ هؤلاء المكلومون على الحياة، يصنعون من بسمة طفل فرحةً، ومن كسوة يتيم رسالةً بأنّ الحياة لن تُهزم ما دام فيها نبضٌ للكرامة ورغبة في الصمود.

وفي دولٍ عربيةٍ أخرى، حيث يتصارع الداخل مع الداخل، يتوارى العيد خلف ركام الاشتباكات، وتضيع فرحته في زحام النزوح واللجوء، وهزيمة فريق وانتصار فريق، والحقيقة أن الوطن كله مهزوم، بينما تئنّ دولٌ تحت وطأة واقعٍ أنهكها، وتتقلّب دولٌ في متاهةٍ سياسيةٍ وإنسانيةٍ، وتتأرجح دولٌ بين الانهيار الاقتصادي وأملٍ لا يزال يتشبث به البسطاء.

ما يؤلم في هذه الصورة هو أن الجرح العربي لم يعد طارئاً، بل أصبح جزءاً من المشهد العام، تتوارثه الأجيال وتتناقله المناسبات، حتى العيد، الذي كان يُنتظر ليكسر رتابة الحزن، بات هو الآخر أسير اللحظة السياسية، والواقع العربي المأزوم. غير أن ما يبعث على الأمل، أن شعوبنا العربية ما زالت قادرةً على منح العيد معنى، حتى في ظل المعاناة. فكل زيارةٍ لقريب، وكل مصافحةٍ بين متخاصمين، وكل صدقةٍ تُقدّم ليتيم، هي إعلانٌ بأن الخير ما زال في هذه الأمة، وأنّ ما يجمعها أكبر مما يفرّقها.

وإذا كان العيد مناسبةً للتسامح والتجدد، فإنّ الأمة العربية اليوم أحوج ما تكون إلى تجديد وحدتها، وإلى رأب صدعها، بعيداً عن الخطابات والشعارات المستهلَكة والعناد الذي لا طائل من ورائه، وذلك بالاقتراب أكثر من هموم الإنسان العربي، الذي لا يطلب سوى أن يحتفل بعيدٍ غير مشوبٍ بصوت رصاص، وأن يرى أبناءه في مدارسهم لا بين أنقاض البيوت وفي المخيمات، وأن يعود العيد مناسبةً للفرح الخالص من غير منقصات، لا مساحةً لتجديد الأحزان.

العيد ليس مظهراً دينياً واجتماعياً فقط، بل هو اختبار حقيقي لحال الأمة. وما دام فينا من يتذكّر الآخر، ويواسي المنكوب، ويُصرّ على الحياة، فإنّ في الأفق متّسعاً للأمل، وفي الغد بارقة نور، قد تعيد للأمة ما فقدته، وتعيد للعرب معنى «العيد» الذي يليق بتضحياتهم وآمالهم، فرغم المشهد، الذي يبدو قاتماً، فإن في الأمة مناراتٍ لا تنطفئ، وفي كل دولةٍ عربيةٍ هناك من يمسك بزمام المبادرة، يغيث، ويعلم، ويبادر، ويزرع، ويحاول إعادة ترميم ما انكسر.

في العيد نعايد الشعوب التي تعانق صبرها على ما يفعله بعض أبنائها بها تحت شعاراتٍ خرقاء، في العيد نحيّي قدرة هذه الشعوب على التمسك بالأمل رغم ما تعانيه من الألم.

التعليقات معطلة.