22 يونيو 2021
مع كل انغلاق يصيب العملية السياسية في العراق، تتجدّد الدعوات إلى إقامة فيدراليات، يعتقد أصحابها، أن الفيدراليات التي يطالبون بها يمكن أن تحمل بين جنبيها خلاصا لأفقٍ مسدودٍ وطرقٍ باتت لا توصل إلى الضوء الذي يقال إنه موجود في آخر النفق. واليوم، في ظل حالة من الاستقطاب السياسي الحادّ، وتصارع الأضداد الذي تعيشه المكونات السياسية المختلفة في العراق، عادت الدعوة هذه لتطفو على سطح الأحداث، ويرى أصحابها أنها باتت أكثر حاجة، ويعتقدون أنها أكثر نضجا من دعوات سابقة.
وإذا كانت الفيدرالية، بوصفها مصطلحا غربيا، تعني الاتحاد، فذلك لا يعني، بأي حال، أن يكون ناتجا عن اتحاد عدة دول متفرّقة، فذلك لا يعني التعريف الأوحد للفيدرالية، فهو يعني أيضا تفكّك إحدى الدول الموحدة إلى ولايات وأقاليم، كما يعرّفه سعيد السيد علي في كتابه “المبادئ الأساسية للنظم السياسية وأنظمة الحكم المعاصرة” (دار النهضة العربية، القاهرة، 2005). وبالتالي، لا تأتي دعوة بعض الساسة في عراق اليوم إلى تشكيل عراق فيدرالي محاولةً لتفتيت البلد أو تقسيمه، كما يؤكّدون، وإنما هي محاولة لإيجاد حل لحالة الاستعصاء السياسي التي وصل إليها العراق بعد 18 عاماً من سقوط نظام الحكم الواحد والحزب الواحد والدولة المركزية الشمولية.
الدستور العراقي بقي، بعد أكثر من 13 عاماً على كتابته وإقراره، حبراً على ورق، سواء في ما يتعلق بالأقاليم أو الفيدرالية
يؤكد قانون إدارة الدولة لعام 2003، والذي صدر عقب الغزو الأميركي العراق، في مادّته الرابعة؛ إن نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي فيدرالي، في حين أشار الدستور العراقي الصادر عام 2005، بشكل صريح وواضح ومفصل، إلى الفيدرالية، إذ أكّد، في المادة الأولى، أن “جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة”. أما في إطار حديث الدستور عن الأقاليم، فنصت المادة 116 من الباب الخامس أن “النظام الاتحادي في جمهورية العراق يتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية”.
وبعيدا عن بعض المواد الدستورية الغامضة والمتناقضة الخاصة بالأقاليم والفيدرالية، فإن الدستور العراقي بقي، بعد أكثر من 13 عاماً على كتابته وإقراره، حبراً على ورق، سواء في ما يتعلق بالأقاليم أو الفيدرالية، فلا إقليم تشكل، سوى ما كان واقعاً. وهنا يشار إلى إقليم كردستان العراق، بعد أن باءت كل المحاولات التي سعى إليها بعض الساسة العراقيين إلى إقامة أقاليم، سواء في جنوب العراق أو شماله، بالفشل، بسبب تعنت سلطة المركز، بل قامت بتجريم كل من طالب بإقامة إقليم أو دعا إلى ذلك، كما حصل مع دعاة إقليم صلاح الدين في شمال بغداد قبل عدة سنوات.
مع قرب الانتخابات المقرّرة في أكتوبر المقبل، فإن ساسةً كثيرين رفعوا شعار الإقليم أمام ناخبيهم
اليوم، وفي ظل هذا الاستعصاء السياسي الذي يعيشه العراق، وسطوة قوى خارج هيكلة السلطة، يشار إلى الحشد الشعبي تحديدا. ومع قرب الانتخابات المقرّرة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، فإن ساسةً كثيرين رفعوا شعار الإقليم أمام ناخبيهم، وخصوصا في محافظة الأنبار، وربما حتى الموصل والبصرة، ليس بسبب هيمنة قوى مسلّحة، تنتمي للحشد الشعبي، على مختلف مفاصل الدولة العراقية وتحكّمها بالقرار، وإنما أيضا بسبب الفساد المالي الكبير الذي ضرب أطنابه في مختلف مفاصل الجسد العراقي، فلم يبق لمحافظات غنية كثيرة شيئا تُسيّر به شؤونها.
هل يمكن أن تسمح قوى اللادولة التي باتت تسيطر على أغلب مفاصل الدولة العراقية بإقامة فيدراليات تنازع المركز الصلاحيات والسلطات؟ عمليا، لن تسمح مثل هذه القوى بأي خروج إداري لهذه المحافظة أو تلك، لأنها تدرك جيدا أن ذلك سيعني، من بين ما يعينه، إغلاق كل المكاتب الاقتصادية، وإنهاء سيطرة المليشيات المسلحة على مفاصل حيوية كثيرة في تلك المحافظات، وبالتالي خسارتها موارد هائلة، كانت تسمح لهذه المليشيات بالتموّل منها وديمومة وجودها، طبعا بالإضافة إلى ما تتقاضاه هذه الميلشيات وتأخذه من خزينة الدولة شهريا نظير حماية شكل الدولة، إن جاز قول ذلك.
بايدن من أوائل الداعين إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول أو ثلاثة أقاليم في 2006
لكن، وعلى الرغم من كل التعقيدات التي تغلّف المشهد العراقي، ومنها ما يتعلق بمطالب إقامة الأقاليم الإدارية، فإن ملامح كثيرة لهذا المشهد الضبابي والمعقد تؤكد أن وجود قوى إقليمية، وربما دولية، داعمة لهذا التوجه، تعاضدها قوى سياسية داخل العراق، قد تجعل من هذه المطالب واردة التحقق، وقابلة للوصول إلى النهايات المطلوبة. وهنا لا بد أن يُشار إلى أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، كان من أوائل الداعين إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول أو ثلاثة أقاليم في عام 2006.
يضاف إلى ذلك أن إيران، المتحكّم الفعلي بالمشهد العراقي من خلال الأحزاب أو المليشيات الموالية لها، تتفاوض حالياً من أجل الخروج باتفاق نووي جديد، أو حتى العودة إلى الاتفاق السابق مع الولايات المتحدة، ما يعني أنها قد تبدو أكثر مرونةً حيال مطالب كهذه، إذا ما اقتربت فعليا من تحقيق عودة إلى الاتفاق القديم بثوب جديد، وأبعدت عن نفسها شبح الحرب الاقتصادية التي فرضتها عليها الولايات المتحدة، وكان العراق، خلال تلك الحرب، ثقبها الأسود، بعد أن لعب دورا مهما في تفتيت تلك العقوبات، بعد أن تحول إلى رئة مهمةٍ تتنفس من خلالها إيران اقتصاديا.
الخطوة الأميركية بسحب عديد من منظومات الباتريوت في الشرق الأوسط، العراق والكويت والسعودية، فسّرها كثيرون بأنها خطاب حسن نيات من إدارة بايدن إلى الرئيس الإيراني الجديد الموصوف بالمحافظ والمتشدّد، إبراهيم رئيسي، ما يعني إمكانية دخول إيران في مظلة تفاهمات أميركية تسمح بعراق فيدرالي، خصوصا أن هذه الخطوة تحظى بدعم أميركي. وفي حال فشل السعي إلى إقامة أقاليم مستقلة إداريا عن تسلط المركز والمليشيات الولائية، من غير المستبعد أن تكون السنوات العشر المقبلة تحمل ألوان أعلام دول جديدة تتمخّض عن تقسيم العراق، تقسيم قد لا يكون، بالضرورة، ثلاثي الأبعاد، سنيا شيعيا كرديا.