كثيرًا ما ألتقي بأناس لم أرهم منذ سنين طويلة، فأجدهم كما هم تمامًا. كأن الزمن توقف عندهم، أو مرّ بجوارهم دون أن يلمسهم. يروون ذات القصص، يضحكون على ذات النكات، يتحدثون بذات اللغة، وبذات الأسلوب الذي تركتهم عليه منذ عقود من الزمن.
أجلس بينهم بمحبة، لكن في قلبي شيء يشبه الغربة. لا غرورًا، بل دهشة ممزوجة بحزن شفيف. لا شيء تغيّر فيهم، بينما في داخلي، تحوّلت تضاريس كثيرة، وتبدّلت رؤى، وسكنتني أسئلة لم أكن أعرفها من قبل.
لقد أدركت مع الوقت أن الوعي لا يأتي مجانًا، ولا يهبط على القلب هبوط الوحي، بل هو ثمرة سنواتٍ من التدرّج في الفهم، وسيرٍ طويل في دروب القراءة، وإلحاح متواصل على أبواب المعرفة، ومساءلة لا تهدأ للعالم والذات.
إنه كالنور، لا يكتفي بأن يُضيء الطريق، بل يكشف أيضًا العثرات التي لم تكن تُرى، والظلال التي كنّا نمر بها دون أن نلحظها. وكلما ازداد الإنسان وعيًا، ازداد شعوره بأنه لم يعد كما كان، ولا من حوله كما كانوا. تتبدل علاقاته، وتتغير أولوياته، ويصبح صعبًا عليه أن يُجامِل ما كان يُسلّيه من قبل، أو أن يأنس بما لم يعد يشبهه.
لكن لهذا الوعي، على كل ما فيه من تعب، لذّة لا يعرفها إلا من ذاقها. لذة تشبه انبلاج الفجر بعد ليلٍ طويل. لذة لا تأتي من امتلاك الإجابة، بل من جمال السؤال، ومن الدهشة التي لا تموت.
ولعلّ أجمل ما في الوعي أنه لا يُشعرك بأنك أفضل من الناس، بل يُشعرك بمسؤولية أن تكون أرحم بهم، وأكثر تفهمًا لهم، وأشدّ حرصًا على ألا تُطفئ نور أحد، وأنت تحاول أن تُشعل مصباحك.
قال ألبير كامو ذات مرة: “كل وعي هو عزلة”.
وأنا اليوم أُدرك كم كان صادقًا في مقولته هذه.
الواعي لا يغترب عن الناس فحسب، بل يغترب أحيانًا عن ذاته القديمة. يصبح حديثه مغايرًا، إنصاته أكثر عمقًا، وتوقه لما وراء السطح أكثر إلحاحًا. لكنه، في المقابل، يشعر أن دوائر الأنس التي كان يعرفها قد تقلّصت، وأن كثيرًا من الجلسات التي كانت تبهجه باتت تُثقله.
ومع كل هذا، فإن الوعي لا ينبغي أن يُقسّي القلب. لا يجوز للواعي أن يحتقر البسطاء، أو أن ينظر للناس من علٍ. فبعض من لم يقرأوا كتابًا في الفلسفة، يحملون من الرحمة والبساطة ما يفوق أعظم المتفلسفين.
وقد قال شوبنهاور: “كلما ازداد الإنسان وعيًا، ازداد شقاؤه”، لكن هذا الشقاء ليس حكمًا نهائيًا، بل هو امتحانٌ للرحمة، وتدريب على الاتساع.
كم من مرة وجدتُ الطمأنينة في حديث بسيط مع وجه لا يعرف التنظير، لكنه يعرف كيف يُصغي، وكيف يُحب دون شروط. وكم من مرة ساندني أحد هؤلاء الذين قد لا يُتقنون التعبير، لكنهم يتقنون الوفاء. إنهم لا يفسّرون الحياة، بل يحيونها بنُبل خفي، وبأخلاق لا تحتاج إلى شرح.
لقد تعلّمت أن أقدّر هؤلاء. أن أجلس بينهم وأنا واعٍ أن الطيبة ليست مرتبطة بمستوى الوعي، وأن النُبل قد يسكن صدرًا لم يقرأ سطرًا، لكنه يعرف الفطرة جيدًا، ويعرف أن القلب لا يُزوّر.
الوعي نعمة عظيمة، لكنه لا يكون نعمة حقيقية إلا حين يصاحبه التواضع. حين نُدرِك أن من حولنا، وإن لم يُشاركونا عمق التفكير، قد يُهدوننا لحظات من النقاء لن نجدها في صالونات الفكر ولا في الكتب المجلدة.
في زمن يُشيد بالمظهر، ويُضخّم المعرفة، وينظر إلى الصدق بعين الشك، يبقى الواعي الحقيقي هو الذي يرى النور في القلوب الصافية، لا في الألقاب، ويعرف أن الحكمة قد تُولد من الدهشة، وقد تسكن في حضن الجدّة التي تبتسم دون أن تُحلل شيئًا.
لذلك، أقول لنفسي كلما شعرت بغربة الوعي: لا تحزن. الغربة ليست علامة ضياع، بل إشارة على أنك ترى بعين أخرى.
لكن، في وسط هذه الغربة، لا تنسَ أن تُحب، وأن تُنصت، وأن ترى الجمال في من لا يُشبهونك. فما أجمل أن تتسع رؤيتك، دون أن تضيق إنسانيتك.