غزة مسؤولية من؟

2

 

 

ما حدود المقاومة والكفاح المسلح؟ وهل هي أمور بلا سقف أم أن الأمر يجب أن يخضع للمراجعة؟

 

مصطفى الفقي كاتب وباحث

 

 

 

 

 

 

امرأة فلسطينية وطفل يقفان عند مدخل خيمة متضررة بمخيم للنازحين في شمال خان يونس، 19 أبريل 2025 (أ ف ب)

 

ملخص

غزة إلى أين ومسؤولية من؟ سؤال في موضعه والإجابة عنه تتمثل في قرارات الشرعية التي حصل عليها الفلسطينيون عبر العقود الماضية، وكيف أن هذه الشرعية كانت ولا تزال وستظل حية في ملفات المنظمات الدولية وشعارات العدالة التي ترفعها الشعوب تحت غطاء حقوق الإنسان.

 

غزة مسؤولية من؟ إنه السؤال الأكبر والأهم بل والسؤال الحائر، فمع الفاتورة فادحة الثمن التي دفعها ويدفعها أهل غزة من دمائهم ونسائهم وأطفالهم، يبقى من حقهم طرح هذا السؤال على دول العالم قاطبة في خطاب مباشر لضمير الإنسانية الذي يبدو أنه قد تبلد ولم يعد قادراً على استيعاب الضربات الجديدة واللطمات المتتالية.

 

قد كنا نتوهم أنه مع تتابع السنين ومرور الأزمنة سيبرز شعور بالإنسانية الراقية والخلق الرفيع الذي يدرك أننا جميعاً في قارب واحد، إما أن يطفو بنا أو أن يغرق بكل ما يحمله، وقد أثبتت حرب غزة وجود الاستخفاف الشديد بحياة البشر هناك وقتل النساء والأطفال وترويع المدنيين الأبرياء، وبلغت قمة المأساة أن هناك فصائل من أهلها احترفت النضال من أجلها، ونحن لا نشكك في صدق أي فلسطيني يدافع عن وطنه في غزة أو الضفة أو أي أرض عربية، لكن الذي يدعونا إلى هذه التساؤلات هو ضرورة معالجة مسألة أخرى وقضية ذات أهمية، ونعني بها ما هي حدود المقاومة الوطنية والكفاح المسلح؟ فهل هي أمور بلا سقف ودون درس للنتائج؟ أم أن الأمر يجب أن يخضع لحسابات تدعونا جميعاً إلى مراجعة ما جرى، مع الأخذ في الاعتبار أن استمرار العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين هو دليل جديد على عنصرية إسرائيل وعدوانية حكومة اليمين المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو في سعيه الحثيث إلى تطويع الإدارة الأميركية لخدمة مصالح إسرائيل، من دون النظر إلى أهمية السلام والأمن الدوليين اللذين يجب أن ينعم بهما الجميع.

 

لا يخفى على أحد أن حرب غزة التي بدأت بأحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 قد تركت بصمات غائرة على وجه المجتمع الدولي كله، وأضحت نموذجاً للخلط بين الكفاح المسلح المشروع وبين الإرهاب الممنوع، وأصبحنا نفكر في نظرية المقاومة بشقيها الإيجابي والسلبي كما بدأتها مدرسة المهاتما غاندي في النضال الهندي ضد الاحتلال البريطاني، ومواقفه الأسطورية لتكبيد الخصم أفدح الخسائر البشرية من جانب صاحب الحق الذي يدافع عن أرضه ووطنه.

 

أنا أدرك مباشرة أن الاحتلال الإسرائيلي استيطاني بطبيعته وسرطاني بفطرته ومدعوم بأقوى دولة في العالم تغدق عليه السلاح والعتاد، وتمنحه غطاء دولياً في مواجهة الشرعية وحقوق الإنسان التي تخرقها إسرائيل بكل المقاييس، وكل ذلك في ظل رئيس أميركي جديد ليس له كتالوج يسمح لنا بأن نعرف من تاريخه السياسي، وهو محدود، أو من تاريخه في عالم المال والتجارة والإنشاءات، وهو كبير، ما يجعلنا قادرين على أن نجد منافذ للولوج إلى عقله والوصول إلى قلبه، في ظل دولة يحكمها نظام رئاسي يلعب فيه الرئيس دوراً محورياً في السياستين الداخلية والخارجية.

 

وإذا عدنا لإقليم غزة بتاريخه الصعب ومعاناة أهله التي تفوق كل تصور، فإننا نتمسك بمبدأ درجت عليه النظم السياسية المختلفة، وهي أن كل تجمع سكاني أو شعب من الشعوب لا بد من أن تحكمه فئة منه، وإذا كانت العرب قد قالت إن “أهل مكة أدرى بشعابها”، فإن أهل غزة ولا شك أيضاً أعرف بدروبها، لذلك فإن القضية محسومة من الناحية النظرية والقانونية بل والسياسية، ولكن الاختلاف يأتي ممن يتوهمون أن هناك وصاية مطلقة تمارسها قوى الاحتلال فوق الأرض المغتصبة.

 

إن الأمر في ظني يدور حول محاور ثلاثة:

 

أولاً، يعتبر الاحتلال الإسرائيلي القائم على العنصرية الصهيونية نمطاً فريداً من أنماط الاحتلال في التاريخ المعاصر، إذ لم تشهد البشرية من قبل ذلك النوع من الاحتلال القائم على دعاوى دينية متعصبة ومستمدة من أفكار متطرفة، تجعل الاحتلال حقيقة مرة لأنه يحاول اقتلاع أصحاب الوطن من جذورهم وإحلال مستوطنين وافدين مكانهم، فهو احتلال مزدوج بكل المعايير، ولا نكاد نجد تفسيراً له إلا التغول الذي شعرت به عناصر الصهيونية في بدايات القرن الـ 20 وسعت إلى تحقيقه بكل الوسائل والطرق على حساب أصحاب الأرض الذين سادت عليهم عوامل القهر، وانتزعت منهم المسكن وحرمتهم حق العمل وممارسة الحياة الطبيعية ككل البشر.

 

اقرأ المزيد

 

الجيش الإسرائيلي يقر بخطئه في قتل مسعفي غزة

 

الوسيط القطري “محبط” من “بطء المفاوضات” في شأن هدنة غزة

 

مقتل جندي إسرائيلي هو الأول منذ استئناف الحرب في غزة

 

سلة غذاء غزة تحت جنازير الدبابات

ولا بد من أن نعترف هنا أن الشعب الفلسطيني لم يقف مكتوف الأيدي ولم يقبل أبداً أن يكون خاضعاً لجرائم الغزو الصهيوني بعناصره المختلفة وأطرافه المتعددة، بخاصة أن ذلك الاحتلال الإسرائيلي قد استند إلى دول عدة، بدءاً من بريطانيا دولة الانتداب على فلسطين، ومروراً بفرنسا راعية البرنامج النووي الإسرائيلي، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية التي اعتبرت إسرائيل ولاية أميركية بالمعنى الكامل للكلمة، وبذلك ضاعت الحقوق وتداخلت المواقف ودفع الفلسطيني المهاجر أو النازح طوعاً أو كرهاً أغلى فاتورة في التاريخ المعاصر.

 

ثانياً، لقد ثار الشعب الفلسطيني على المحتلين خلال مراحل مختلفة من تاريخه ولم يتوقف عن المطالبة بحقوقه والتضحية من أجلها، واندلعت ثوراته وبرزت أسماء مثل أمين الحسيني وعز الدين القسام وياسر عرفات وغيرهم من رموز النضال الفلسطيني، وتوالت التضحيات ودفعت الأجيال ثمناً باهظاً حتى لا تضيع القضية وتتوه في زحام الأكاذيب الصهيونية والدعاوى الإسرائيلية، وخاضت الدول العربية حروباً كبيرة خلال الأعوام من 1948 و1956 و1967 و1973 حتى بقيت القضية حية في ضمائر الشعوب قبل الحكومات، وفي ضمير الأجيال الجديدة قبل السابقة، وتمكّن ذلك النضال الفلسطيني المستمر من جعل القضية حية ومؤثرة وفاعلة على المسرح الدولي لأكثر من 100عام، فألا يستحق مثل هذا الشعب أن يحكم نفسه وأن يسترد أرضه وأن يحقق ذاته؟ ولذلك فإن الإجابة عن التساؤل البسيط حول غزة إلى أين ومسؤولية من هو سؤال في موضعه، والإجابة عنه تتمثل في قرارات الشرعية التي حصل عليها الفلسطينيون عبر العقود الماضية، وكيف أن هذه الشرعية كانت ولا تزال وستظل حية في ملفات المنظمات الدولية وشعارات العدالة التي ترفعها الشعوب تحت غطاء حقوق الإنسان.

 

ثالثاً، إن المشهد الراهن على ساحة العملياتية في الشرق الأوسط يقدم شعباً احتلت أرضه ومزقت حقوقه وسالت دماء أطفاله في أطول حرب إبادة عرفتها المنطقة عبر تاريخها الطويل، إذ إن إسرائيل خرقت كل القواعد وانتهكت كل الأعراف وداست على الشرعية الدولية، بل وحكم القضاء الدولي أيضاً، حتى طاول غضبها المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المؤسسات الجديدة لحقوق الإنسان المعاصر، لذلك فإننا نطالب بأعلى درجات التدويل للقضية الفلسطينية وطرحها على أوسع نطاق، فلن تنفرد إسرائيل وداعموها بكل ما يريدون.

 

ولست أشير هنا إلى مجموعة الدول العربية والأفريقية وحدها أو حتى الدول الإسلامية سنداً لها، بل أقصد صراحة وبوضوح أحرار العالم في كل مكان، ولقد شهدنا كيف هبت الأجيال الجديدة في الجامعات الأميركية على امتداد أشهر عدة تطالب بوقف العدوان والامتناع من قتل المدنيين والقضاء على الأطفال حديثي الولادة، ظناً ممن يفعلون ذلك أنهم يجتثون الشعب الفلسطيني من أرضه ويسحقون كل من يدافع عن أعدل قضية وأشجع شعب يتطلع إلى قيادة وطنية قادرة على بلوغ الآمال وتحقيق الأهداف، وليس ذلك اليوم ببعيد، فالشعوب لا تموت والكفاح المسلح لا يتوقف ولن يضيع حق وراءه مطالب. تحية لشعب غزة ونضال أبنائه الذي لم يتوقف أبداً، فمستقبل غزة مرتبط بمواقف الأطراف كافة من واحدة هي أخطر قضايا العصر وأكثرها تعقيداً وأشدها توتراً، وستمضي قوافل الزمن ويبقى الشعب الفلسطيني مدافعاً عن أرضه ومتمسكاً بوطنه.

التعليقات معطلة.