خميس بن عبيد القطيطي:
يعيش النظام الرسمي العربي مرحلة تاريخية صعبة تبرز فيها ظاهرة فقدان الإرادة رغم الإلمام التام بالمخاطر المحدقة بهذه الأمة، وأشد ما يؤلم في واقعنا العربي المعاصر هو غياب العمل العربي المشترك، وغياب المشروع الاستراتيجي العربي. فإلى أين يتجه العرب في ظل هذه الظروف الدولية الراهنة؟ وهل هناك متغيرات إيجابية متوقعة في المستقبل القريب أم سيستمر هذا التراجع إلى ما لا نهاية؟!
قبل عقود قليلة ماضية كان النظام الرسمي العربي يمتلك القدرة على قول كلمة “لا” على الساحة الإقليمية والدولية، وهذه الكلمة بحد ذاتها تمثل دلالات ومعاني واضحة، وتقدم قراءة كافية لمستوى الأداء العربي في ذلك الوقت، ولكن مع مرور الأيام والأحداث أصبح هذا النظام العربي يفقد القدرة على إبراز أي موقف عربي، عدا تلك الخطابات التي كانت تقدم على منبر جامعة الدول العربية، وهذا أمر مؤسف جدا أننا لم نحقق شيئا، ولا نملك الإرادة الجماعية الكافية لتحقيق موقف مشرف، لذلك بات رهان الشعوب على المقاومة العربية التي أعادت بصيصا من الأمل إلى الذات العربية، فكيف يمكن للنظام الرسمي العربي التعبير عن ذاته في ظل هذه الأوضاع القائمة؟!
بلا شك أن أي أمة أرادت البقاء فعليها أن تبرهن ذلك من خلال مشاريعها الحيوية التي تثبت أنها تمتلك إرادتها، وللأسف الشديد أن العرب منذ حرب أكتوبر 1973م لم يسجلوا أي موقف يعزز من مكانة هذه الأمة، فقد بدأت السقطات تتوالى بعد كامب ديفيد مرورا بالحرب العراقية الإيرانية، ثم اجتياح لبنان، والعديد من المناوشات الحدودية والخلافات العربية، وأخيرا حدث الغزو العراقي للكويت والقافلة العربية تسير للخلف في ظل أنظمة عربية لم تجرؤ على قول الحقيقة أو محاولة لملمة هذا التبعثر والتشرذم العربي، مقابل ذلك كان هناك تراجع مقلق للقضية الفلسطينية، ودخلت مستنقع المفاوضات بعدما جردها العرب من دعائمها المطلوبة، ورغم ذلك كنا نتابع القمم العربية لننتظر ما هو الجديد، وننظر بعين مشدودة نحو هذا النظام على أمل تغيير واقع الضعف والخنوع، وننظر باستغراب للدول العربية المحورية التي غابت عن المشهد العربي الجماعي، فمصر عبدالناصر قررت الانكفاء على نفسها بعد انتصار أكتوبر 73، والعراق صاحب القوة العربية الأبرز على الساحة غرق في ظروف صعبة، فخضع لمخطط خطير من حروب إلى حصار ومناطق حظر في عملية استنزاف بشري لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث، واستمر مسلسل الاستهداف والقصف تحت مسميات مختلفة حتى انتهى به الحال إلى احتلال صهيو ـ أميركي. ولم يختلف الحال كذلك في باقي الدول العربية الأخرى، فقد كان جل همها لقمة عيشها، وهذه الأوضاع كانت خاضعة لمتابعة دقيقة من قبل القوى المعادية التي اعتمد بقاؤها على تراجع وسقوط الأمة العربية، والأشد إيلاما هنا هو الانقسام العربي الراهن، فهناك من يدور حول الفلك الأميركي وهذه الدول قد يكون مستقبلها أشد خطرا من غيرها، وبوادر تلك المخاطر باتت واضحة للعيان، ودول أخرى تغوص في ظروفها الداخلية، وما زال الانقسام العربي قائما حتى اليوم، فكيف يستعيد العرب لحمتهم ويدركون خطورة أوضاعهم ويتداركون وحدة مصيرهم؟ فما جرى في العراق ليس ببعيد عن باقي الدول العربية الأخرى.
نحن هنا لا نمتهن جلد الذات أو نقدم الإسقاط السلبي الذي يضع الأمة في دوامة التضعضع المعنوي، ولكن نسمي الأشياء بمسمياتها، ونؤكد خطورتها على حاضر ومستقبل أمتنا من أجل ولوج مسار آمن يقود هذه الأمة نحو مستقبل مشرف، ومن لا يمتلك مشروعا في الحياة فهو غير قابل للعيش فوق الأرض، ومن سعى لصناعة تاريخه ومستقبل أجياله فلا بد أن يستجيب له القدر. والمهم هنا أن نتدارك الموقف قبل فوات الأوان باعتماد مشروع عربي حقيقي يبني عليه العرب مستقبلهم، وهذا لن يتحقق إلا بامتلاك الإرادة وتعزيز ثقافة المقاومة، وبلا شك أن المقاومة العربية أثبتت فعاليتها وجدارتها خلال السنوات الماضية ولم تستطع القوى المعادية زعزعتها، وهي تعتبر بارقة الأمل للأمة العربية والإسلامية، وعلى النظام الرسمي العربي أن يتبنى تلك الورقة ويوظفها كقاعدة لأي مشروع عربي طالما أنها تمثل واقعا عربيا أصيلا.
إن غياب العناصر الأساسية المطلوبة لمشروع نهضة عربية لا يعني بالضرورة الانهزام والاستسلام، بل يتطلب مواجهة التحديات، فإلى متى سننعت أنفسنا بهذه الأوصاف وجلد الذات دون مشروع استراتيجي واضح؟! فالأمة العربية اليوم بحاجة ماسة إلى مشروع نهضوي جديد ينقلنا من مرحلة فقدان الوعي والإرادة إلى آفاق أرحب من العمل الجاد والتنمية، واستقلال القرار السياسي ووحدة الصف والكلمة لتحقيق مستقبل عربي مشرف، إلا أن هذه الحقائق ستظل في دائرة النظريات طالما لم تتولد الرغبة الجادة والإرادة الحقيقية لدى صناع القرار في المنطقة.
إن العلاقات العربية ـ العربية يجب أن تسودها روح التضامن والأخوة، وينبغي التخلص من تبعات الماضي والاختلافات التي عصفت بالعمل العربي المشترك وضربت التضامن العربي في مقتل، فلا بد من توفير أرضية صلبة بين الأخوة العرب لإزالة تلك العوالق والخلافات السياسية، والنظر للمستقبل بنظرة إيجابية تسودها الرغبة في البقاء بين الأمم بشكل مشرف، وبالتالي يجب أن يتدارك العرب حقيقة أن جزءا من وضعهم المتردي الراهن يتحمله العرب أنفسهم، أما الجزء الآخر فهو بمخططات القوى الاستعمارية التي رسمت الحدود والقيود وغرست “إسرائيل” في قلب هذا الوطن العربي وحددت استراتيجية قوته وأمنه القائمة على حساب الطرف الآخر، وهذه القوى ما زالت تتابع الحراك العربي وتقيس مستوى أدائه، وبالتالي فإن هذا الأمر يتطلب التفكير فيه بعناية لا الارتماء في أحضان تلك القوى الاستعمارية، بل يجب التعامل معها بندية واعتماد مشروعهم المقاوم، وإلا فقد تمضي العاصفة على ما تبقى من العرب، ولن تتوخى تلك القوى الاستعمارية الخير لهذه الأمة على الإطلاق وهذه بديهية مسلمة لا يمكن تجاوزها. إذن فإن البحث عن الذات العربية يكمن هنا، والأيام كفيلة بإثبات تلك الحقائق والمفاهيم وما على العرب إلا تحديد خيارهم.