«الصدمة والترويع» وتجزئة الحل
«الصدمة والترويع»، عقيدة عسكرية تعتمد المفاجأة والاستعراض المذهل للقوة، بما يشل إدراك الآخر ويدمر نيته القتال. خَبِرها العراق في عهد الرئيس جورج بوش الابن، وما زال يدفع الثمن.
ورغم أن الفلسطيني يعيش حياته بين «الصدمة» و «الترويع»، إلا أنه منذ فترة يقف وجهاً لوجه أمام المقابِل السياسي لهذه العقيدة، «صفقة القرن» الأميركية للسلام، بكل ما يرتبط بها من قرارات، من الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، إلى قرار نقل السفارة الأميركية إلى المدينة المقدسة، وتجميد المساعدات للسلطة. صحيح أن الفلسطينيين أفشلوا هذه «الصفقة»، ونجحت في إحباطها ممانعةُ الرئيس محمود عباس والفصائل الوطنية، والانتفاضة المستمرة وارتفاع عدد الشهداء والجرحى والمعتقلين، إلا أن ذلك لا يعني أن محاولات تمرير «الصفقة» ستتوقف.
يمكن القول أيضاً إن الوضع الإقليمي العربي بدأ يتعافى نسبياً من آثار «الصدمة والترويع»، ويحاول الإمساك بزمام المبادرة، وإن كان من منطلق التسليم باستحالة تراجع الرئيس دونالد ترامب عن قراراته، أو تنازل إسرائيل عما تعتبره «مكسباً تاريخياً»، والتسليم بالعجز الفلسطيني والعربي والدولي عن تحويل الرفض العالمي لمنطق الصفقة، الى مبادرة بديلة.
لا تهدف العملية الديبلوماسية العربية الصامتة إلى إلغاء «صفقة القرن»، بل إدخال «تحسينات» عليها. هنا يصبح للرسائل المصرية التي وصلت إلى القيادة الفلسطينية أخيراً، معنىً يستوجب التوقف عنده. هذه الرسائل تقول إن الديبلوماسية المصرية، بمشاركة عربية، أكثر ميلاً إلى إقناع الإدارة الأميركية بإدخال «تحسينات» (أقل من تعديلات) على الصفقة، تأخذ في الحسبان اعتراضات الفلسطينيين وتغريهم بقبولها، وتتيح المضي قدماً في عملية السلام.
أما النقطة الجوهرية، وهي القدس، فإن التحسينات تعني الذهاب إلى أقصى ممكنات ما عناه ترامب من أن الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل» لا يعني ترسيم الحدود، فالباب لا يزال مفتوحاً للتفاوض هنا. هذه هي النقطة التي يمكن المفاوض الفلسطيني والعربي والإسلامي تطويرها إلى صيغة مقبولة لحماية عروبة القدس بأهلها ومقدساتها، وترضي المشاعر القومية والوطنية الفلسطينية.
ولأن ليس لدى الفلسطيني ما يخسره أكثر مما خسر، لن يضيره أي جهد عربي أو دولي، وإن كان الخطر هنا أن تتحول هذه المفاوضات، سواء نجحت أم لا، إلى صيغة تهدئة تسمح بالاستمرار في تطبيق الجوانب المتبقية من «صفقة القرن»، خصوصاً في جانبها الإقليمي.
هنا تتبدى أخطار «التجزئة» في تنفيذ «صفقة القرن»، وهي التي تتركز من أجلها كل الجهود الإسرائيلية الإعلامية والديبلوماسية واللوبيات الصهيونية في واشنطن. يلاحَظ مثلاً تصاعد أصوات إعلامية، عبرية وأميركية، تروّج تحليلات تفيد بتخلي القيادات العربية عن الفلسطينيين، وبتحوّل القضية إلى مسألة هامشية في السياسات العربية.
لكن الأكثر خبثاً وخطورة هو محاولة إظهار أن المشكلة مع الجانب الفلسطيني هي في شخص الرئيس عباس وطاقم قيادته، والإيحاء بأن هناك شخصيات فلسطينية تقبل بالحل الأميركي. مثل هذه التحليلات يسعى إلى إبراز المسألة الفلسطينية لا كصراع تاريخي واحتلال عسكري وحقوق فلسطينية قومية مهدورة، بل كمسألة شخصية وهامشية جداً ستجد حلّها مع الزمن بذهاب قيادة عباس، بالتالي، من الأجدى اعتبارها مرحلة مؤجلة، والانطلاق في المرحلة الثانية، وهي التطبيع مع الدول العربية.
وما كان للخيارات أن تنحصر في احتمالي «التجزئة» أو «تحسين» الصفقة لولا غياب، أو تغييب متعمد للمبادرة العربية للسلام من «صفقة القرن»، والتزام إدارة ترامب الرؤية الإسرائيلية. لذلك فإن إدراج المبادرة مجدداً كمرجعية في صُلب الصفقة، هو مطلب موضوعي.
المؤشرات العربية جيدة، من عودة التشديد على أن لا تطبيع مع إسرائيل أو علاقات خاصة ما لم تُحل القضية الفلسطينية بالمتفق عليه من إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، إلى القرارات الأخيرة للجامعة العربية الداعمة للفلسطينيين، والتحرك في مجلس الأمن، وفي ذلك دلالة على عودة الروح إلى ميثاق عربي جماعي قد تكرسه القمة العربية المقبلة.
مرة أخرى، مستقبل المنطقة تحدده الطريقة التي تُحل بها قضية فلسطين.