عاد جرس التداول في سوق المال (البورصة) الليبية في العاصمة طرابلس يقرع من جديد، بعد 9 سنوات توقف فيها على إثر الصدامات المسلحة التي عانى منها البلد، في خطوة نحو استعادة الاستقرار في بلد منقسم، لاقت ترحيباً حذراً في ظلّ الحاجة إلى تشريعات تطمئن مستثمري الأوراق المالية، وتحظر المضاربات والتلاعب وتبييض الأموال. بدأت البورصة الليبية نشاطها عام 2006، بقرار أصدرته اللجنة الشعبية العامة في ليبيا التي كانت، وفقاً لنظام معمر القذافي، أعلى سلطة تنفيذية في ليبيا، تضمّن أيضاً تعيين سليمان سالم الشحومي مديراً عاماً لسوق الأوراق المالية الليبية، لكنها توقفت لنحو عام مع أحداث شباط (فبراير) عام 2011، وسقوط نظام القذافي، قبل أن تستأنف نشاطها مجدداً، لكن سرعان ما تلقّت ضربةً قاسيةً مع بدء الحرب الأهلية التي اشتعلت عام 2014 وأدّت إلى انقسام البلاد ومؤسساتها بين شطرين شرقاً وغرباً. ومنذ ذلك الحين توقف جرس التداول حتى أمسك به رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة الأسبوع الماضي ليقرعه، في حضور رئيس مجلس إدارة سوق الأوراق المالية بشير محمد عاشور، إيذاناً باستئناف التداول في بورصة طرابلس. “سوق قوية ومستقرة”وفي احتفالية أقيمت في إحدى القاعات الرئيسية في العاصمة الليبية، قال الدبيبة إنّ البورصة هي “إحدى الوسائل لتحسين الاقتصاد الليبي”، مشدّداً على أهمية سوق الأوراق المالية في “مضاعفة الإنتاج المحلي وسدّ عجز الموازنة وتخفيف الأعباء المالية، فهي توفّر الشفافية المطلوبة وتمنح خيارات استثمارية على المدى البعيد”.
وأضاف: “حان الوقت لتكون لدى ليبيا سوق قوية ومستقرّة للمال، للخروج من الشكوك التي تنتاب المعاملات المالية في ليبيا والوصول إلى أعلى درجات الشفافية”. وشدد على أنّ حكومته مصمّمة على تجاوز تحدّيات الاقتصاد الليبي التي وصفها بـ”الكبيرة جداً”. أما عاشور فأوضح أنّ التداول بدأ في الإدارة العامة لسوق المال في طرابلس، وكذلك فرعها الرئيسي في مدينة بنغازي (شرق ليبيا)، بعد توقف نتج من عدم الاستقرار الأمني والانقسام المؤسسي، لافتاً إلى أنّ نجاح السوق يعتمد على “استقرار مختلف قطاعات الدولة وتطورها”. ووعد بالسعي لتحقيق زيادة في حجم الإدراجات في البورصة. تفعيل سوق المالوفيما قال المستشار الإعلامي في سوق الأوراق المالية لامين هامان إنّ “من بين 10 شركات تمّ إدراج 8 شركات في جدول التداولات الاثنين الماضي، لكن ثلاثاً منها فقط بدأت التداول”، أوضح رئيس هيئة سوق المال الليبي محمود وفا أنّ “لدينا 10 شركات وساطة مالية محلية حصلت على تراخيص لبيع وشراء الأوراق المالية وإدارة المحافظ الاستثمارية، ونتطلع إلى تفعيل سوق المال الليبي”. وأشار إلى أنّ العام الجاري سيشهد أدوات مالية جديدة مع إضافة شركات جديدة إلى البورصة الليبية. وشدّد وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة الوحدة الوطنية محمد الحويج، خلال زيارته مقر البورصة، على “أهمية تفعيل سوق المال الليبية، لما لها من دور كبير في جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وعمليات النمو الاقتصادي، وتنشيط قطاع المشاريع الصغرى والمتوسطة”، داعياً مجلس إدارة سوق المال إلى “البدء في طرح الأسهم، وبعض الصكوك الاستثمارية مثل الصكوك الإسلامية”. الخبير الاقتصادي في سوق المال محمد الصلابي رحّب باستئناف التداول في البورصة بعد فترة طويلة من التوقف “أدّت إلى تعثر فرص تطويرها”، مؤكّداً أنّ “المأمول من وراء هذه الخطوة الكثير، لفتح فرص جديدة للمستثمرين ومن يمتلكون فوائض في الأموال، فإعادة الثقة إلى سوق المال تتيح لأصحاب رؤوس الأموال فرصة واضحة وعادلة، بدلاً من المضاربة في العملات الأجنبية والعقارات”. لكن الصلابي لفت لـ”النهار العربي” إلى “الحاجة إلى ترسيخ بيئة آمنة خاضعة للرقابة لحماية حقوق المستثمرين والحؤول دون خروجهم. يجب أن تخضع الشركات المدرجة في سوق المال للقوانين واللوائح المنظّمة، بالإفصاح والإعلان عن النتائج المالية لأنشطتها”.
فترة استكشافيةوأوضح أنّ إدارة سوق المال “حدّدت شهراً قابلاً للتمديد، فترة استكشافية للتداول الذي حدّدت له ثلاثة أيام فقط اسبوعياً، وذلك لمراقبة العمليات وضمان سلامة التعاملات وتحديد أسعار الأوراق المدرجة عبر قوى العرض والطلب وليس المضاربات، وبعد مراجعة التداول خلال هذه الفترة سيتمّ فتحها بشكل يومي”. ورأى أنّ “من الممكن أن تساهم البورصة في تمويل المشاريع الكبيرة من خلال طرح أدوات صكوك التمويل”، مشيراً إلى أنّ القانون الليبي يفتح الباب أمام إدراج الشركات في سوق المال، شرط الإفصاح المالي، كما يمنح الجهات المدرجة في البورصة العديد من المزايا المتعلقة بنسب الضرائب وفرص الحصول على تمويلات”. أما الباحث الاقتصادي عبد الله الأمين فأكّد أنّ الحكم على التجربة “مبكر في الوقت الحالي، فلا تزال هناك العديد من المعايير التي تستوجب أخذها بالاعتبار حتى تصل سوق المال إلى مستوى التأثير المطلوب في الاقتصاد الليبي”. واتفق الأمين مع الصلابي في الحاجة إلى “بيئة تشريعية مناسبة، تُشجّع على تنشيط حركة التداول، خصوصاً في دولة يعتمد اقتصادها تاريخياً على الريع وتديره الدولة بشكل كامل، ويفتقر إلى الدور الحقيقي للقطاع الخاص”. كما شدّد على ضرورة الحفاظ على مستوى الاستقرار الحالي والعمل على توحيد المؤسسات، خصوصاً المالية، والتي تواجه تحدي خروج نحو 40 مليار دينار ليبي (نحو 8 مليارات دولار) خارج النظام المصرفي الرسمي، وهناك ضرورة ملحّة لاستعادة هذه الأموال عبر استعادة الثقة بالأدوات الاستثمارية الرسمية.