أسماء نصار
يسوق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خطته ذات الـ21 بندًا بوصفها “خارطة طريق ” لإنهاء الحرب فى غزة وصناعة السلام، لكنها فى الحقيقة ليست إلا نسخة معدلة من مشروع إسرائيلى قديم، صيغ بدقة لتكريس الهيمنة على القطاع، وتجريد المقاومة من جوهر وجودها، وتحويل غزة إلى مساحة خاضعة لسلطة الاحتلال تحت مسمى الترتيبات الأمنية.
خطة ترامب لا تنشد السلام بقدر ما تعيد إنتاج معادلة الإخضاع، فهى لا تبقى للفلسطينيين سوى فتات الوعود الغامضة، بينما تمنح تل أبيب الحق المطلق فى رسم مستقبل الأرض والناس والسيادة.
من يتابع الأمر الفلسطينى بنظرة معمقة لن يجد خطة ترامب سوى وثيقة إسرائيلية لا يمكن وصفها بالمبادرة السياسية الأمريكية، خاصة أنها صيغت بلغة الشروط لا الحلول، فاشترطت نزع سلاح حماس، وتفكيك بنيتها العسكرية والسياسية، وضمان حرية العمليات الإسرائيلية داخل غزة متى شاءت، فليس من العقل اعتبار تلك البنود بنودا تفاوضية، فهى فى الأصل جوهر العقيدة الأمنية لتل أبيب منذ عقود، لكن ترامب منحها غطاءً أمريكيًا ودعاية عالمية.
الأدهى أن الخطة تصاغ وكأن الفلسطينيين مجرد تفصيلة ثانوية، مصير غزة يتحدد في واشنطن وتل أبيب، وربما بعض العواصم الأخرى، بينما يحرم أهلها من حقهم الطبيعى فى أن يكونوا أصحاب كلمة الفصل.
قبول خطة ترامب يعيدنا لرؤية ومنطق “الوصاية الدولية”، حيث يدير الآخرون الأوطان وينهبون مقدراتها، وكأن غزة مجرد ورقة على طاولة المساومات الإقليمية والدولية.
أحد أخطر جوانب هذه الخطة يتمثل فى توظيف قضية الرهائن الإسرائيليين كورقة ابتزاز، تستخدم لتبرير المزيد من الشروط التعسفية على الفلسطينيين، بينما يعيش قطاع غزة تحت أنقاض حرب مدمرة، ويظل صوت عائلات الرهائن مسموعًا ومؤثرًا فى القرار السياسى الإسرائيلى، في حين يسلب الفلسطينيون حتى حقهم فى الشكوى أو الاعتراض، وهنا تنكشف المفارقة، فحقوق الإسرائيليين توظف لتقييد الفلسطينيين، ومعاناتهم تستغل كأداة ضغط إضافية لفرض الهيمنة.
من الواضح أن نتنياهو لا يسعى إلى سلام عادل، بل إلى تثبيت مشروع السيطرة، فتصريحه بأن الحرب بدأت في غزة وستنتهي فيها يعكس عقليته الاستراتيجية، غزة هي ساحة الحسم، وأى تسوية لا بد أن تفرض بالقوة، ومن هذا المنطلق، تصبح الخطة أداة لتكريس مشروع “الأرض المحروقة”، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الاحتلال، ولا مجال لقيام دولة فلسطينية مستقلة أو حتى كيان سياسى له وزن.
ما يثير الغضب أن واشنطن تقدم نفسها كوسيط نزيه، بينما هى فى الحقيقة طرف متحيز يمد إسرائيل بالغطاء السياسى والدبلوماسى، تسويق الخطة باعتبارها “خطة ترامب” هو محاولة لتجميل مشروع إسرائيلى صرف، فحين يربط هذا المشروع باسم رئيس أمريكى ذى ثقل عالمى، يصبح قبوله عالميا أقرب من رفضه، بعبارة أخرى، إسرائيل تكتب، وواشنطن توقع، والعالم مطلوب منه التصفيق.
الظلم الأكبر فى هذه الخطة هو تغييب الإرادة الفلسطينية نفسها، فلا ذكر لآمال الشعب، ولا اعتبار لمطالبه المشروعة، ولا مساحة لقراره السياسى المستقل، وكأن المطلوب من الفلسطيني أن يرضى بدور “المتلقى” للقرارات، بينما يقتسم الآخرون أرضه ومستقبله، هذه ليست مفاوضات، بل وصاية مقنعة، أشد خطورة من الاحتلال نفسه لأنها تمحو الحق التاريخى لأصحاب الأرض المسلوبة أنفسهم.
خطة ترامب تعيد تعريف القضية الفلسطينية لتخدم أهداف ومخططات إسرائيل وحدها، فأمنها مضمون، هيمنتها مشرعنة، ومقاومة الفلسطينيين مجرمة ومنزوعة الشرعية، وفى المقابل، يترك الفلسطينيون أمام وعود غامضة عن إعادة إعمار وتنمية، دون أى ضمانات سياسية حقيقية بل بلا أى ضمانات لحياة النساء والأطفال والشباب والشيوخ، هذا ليس سلامًا، بل قتل للقضية العادلة مغلف بعبارات دبلوماسية رنانة.
لا أطن أن الفلسطينيين سيقبلون أن يدار وطنهم من الخارج؟ ولا أرى أن حماس قد تسمح بأن يحدد مصير أرضهم فى غرف مغلقة بين واشنطن وتل أبيب؟، ولا يستشير الفلسطينيين أحد فيما يطمحون له فى مستقبلهم.
خطة الرئيس الأمريكى المفخخة تسعى لإقناع العالم بأن الوصاية يمكن أن تكون طريقًا للسلام، بينما الحقيقة أنها مجرد مرحلة جديدة من مشروع الاحتلال، لكن هذه المرة بأدوات أكثر نعومة وغطاء أكثر شرعية لتخيير الشعب الفلسطينى بين الموت والاستسلام.