نهاد زكي
هل الإنسانية مشوَّهة؟ أجزاء من اللحمِ النيئ، أرواح مُعذَّبة، معزولة ومسجونة داخل معضلاتهم الوجودية، هكذا رآها الفنان البريطاني – الأيرلندي «فرانسيس بيكون». الإنسانية كانت مشوهة في فن ما بعد الحرب؛ إذ احترف بيكون فن البورتريه، ولكنها كانت بورتريهات من نوعٍ خاص، فوجوه مُلهميه على الدوام مشوَّهةٌ بعنف، يصرخون، حتى وجهه هو شخصيًا لم يسلم من التشويه في بورتريهاتٍ ذاتية؛ فلُقِّبت لوحاته باللوحات الصارخة، ولقِّب هو بـ«فنان الرعب».
الحرب العالمية الثانية.. قرنٌ من الدماء في لوحات
يبدو أن العنف قد تربى مع بيكون منذ الطفولة؛ إذ يشير في أكثر من موضع، إلى أن حياته المبكرة المضطربة كانت وراء العنف الزائد في لوحاته؛ إذ نشأ على أنقاض الحرب العالمية الأولى في وقتٍ كان فيه منزله بالقرب من تمركز للجنود البريطانيين، فكان يستمع باستمرار إلى مناورات الجنود، كما كان والده يشغل وظيفة في مكتب الحرب إبان الحرب العالمية الأولى، وهو ما كان له بالغ الأثر على نشأة هذا الفنان وسط تهديدات الحرب وويلاتها من كل جانب؛ إلا أن العنف والنظرة السوداوية للإنسانية قد تأصلا فيه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
عندما قام بيكاسو برسم واحدة من نسائِه الباكيات، كان هذا بمثابة إشادة عميقة بمعاناة إسبانيا، إبان الحرب الأهلية، إلا أن بيكاسو باعتباره سياسيًّا قد قام بالانضمام إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، قائلًا: «لقد أصبحتُ شيوعيًا؛ لأن الشيوعيين هم الرجال الأشجع في فرنسا والاتحاد السوفيتي»، إلا أن فرانسيس بيكون لم يكن يومًا سياسيًا، بل انغمس بكلِّه في الحرب العالمية الثانية، وأراد الدفاع عن وطنه باعتباره جنديًّا في معركة؛ لكن بيكون كان يعاني من الربو، وهو الأمر الذي جعله غير ملائم لأداء الخدمة العسكرية.
لم يستسلم بيكون حينها، بل قام بالتطوُّع في الدفاع المدني؛ إذ كان مسئولًا عن المهام التي تشمل مكافحة الحرائق، والإنقاذ المدني، واستعادة جثث الموتى، وبعد فترة من التواجد في شوارعٍ مليئة بالركام، استقال بيكون من خدمته المدنية عام 1943، بعد أن تفاقمت حالة الربو لديه، ليترك الحرب ويعيش داخل كوخ مستأجر صغير مع صديقه إريك هول؛ إلا أن الحرب لم تتركه، بل توغلت داخل روحه، وبدأت تشوهاتها في التسرُّب إلى لوحاته.
(فيلم «بي بي سي» التسجيلي عن حياة فرانسيس بيكون)
أما البداية الحقيقية فكانت من خلال معرض أقامه عام 1944، بعنوان «دراسة ثلاثية لشخصياتٍ مصلوبة»، كان هذا هو العمل الذي تبلورت فيه شخصية بيكون واحدًا من أعظم فناني القرن العشرين؛ إذ استعرض فيه لوحاتٍ لرقابٍ طويلة، وأفخاذٍ ذات فمٍ صارخ، وأجسادٍ ملونة، تجسِّدُ الألم والمعاناة، تعليقًا قويًّا على حالة ما بعد الحرب، وعلى الرغم من صدمة النقَّاد من المحتوى؛ إلا أن الجدل قد وضعه في دائرة الضوء.
مرَّ بيكون بكلِّ تقلبات معلمٍ مُتمرِّس، بدءًا من صالاتِ العرض وردّ فعل النقاد، وصولًا إلى اللوحات المشوَّهة والسيرة الذاتية المروِّعة، والتي جعلت منه فنانًا مُحيِّرًا. كان بيكون هو الفنان الذي قدَّم أسوأ أخبار العالم الحديث عبر فنه، تلك اللوحات المُستقاة من الصور المروِّعة لقتلى الفاشيين والثورات الذين تعدَّت أعدادهم الملايين، وروايات القتل الجماعي داخل الاتحاد السوفيتي؛ إذ كان هو الفنان الأخلاقي الوحيد الذي لم يُعمِهِ الانحياز لأيِّ طرفٍ عن الواقع، فقدَّم عام 1948 لوحة بعنوان «Head I»، والتي خرجت لوحةً مروعةً تحكي قصَّة الإنسانية كما رآها بيكون، وجهًا مشوهًا ممزوجًا برأس قرد البابون المفترس، والتي أراد من خلال الرعب الكامن فيها اكتشاف ما يمكن أن تفعله اللوحة في عصر التصوير الفوتوغرافي.
(لوحة Head I فرانسيس بيكون)
«البابا في قفص الاتهام والاشتراكية أيضًا».. هكذا رأى بيكون العالم
كانت لوحات بيكون في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي عبارة عن مقالاتٍ في العدمية والإلحاد؛ إذ يبدو أنَّ ويلات الحرب قد أفقدته إيمانه في كلِّ شيء، فـ«الله ميّت» بحسب بيكون، وفي عام 1949 كان بيكون قد استطاع أن يرسم مجموعة من اللوحات أطلق عليها «رؤوس»، وفي لوحة الرأس السادسة، قام بتصوير بابا الفاتيكان يصرخ في قفصٍ زجاجيّ؛ إذ بحسبه، لم يكن موقف الفاتيكان جادًا تجاه النازيين، إلا أنه قد كان من المبالغة تصوير البابا ذاته بوصفه مجرم حرب، وكأنه يضع الدين نفسه في قفص الاتهام، كل هذه الصلوات وكل هذا الاعتراف وكل هذا الخوف من الجحيم، الذين لم ينجحوا في أن يجعلوا البشرية أقلَّ وحشية.
(لوحة بيكون: بابا الفاتيكان يصرخ)
رغم ذلك، استطاع بيكون أن يخلق لنفسه مساحة خاصة في الفن، تتم دراستها الآن؛ إذ اعتبر الرؤوس والوجوه خاصةً، هما خرائط الروح وانفعالاتها، ولهذا وجدها تستحق أن تُرسم، وعلى الرغم مما فعله في تلك الوجوه من تشويه إلا أن ذلك كان رسالة لمعرفة الآخر، وربما محبته أيضًا.
امتاز بيكون بخيالِ نحَّات، وبجولةٍ صغيرة بين لوحاته ستكتشف أنَّ الانتهاكات الجسيمة للوجه الإنساني في ثناياها، لا تتكرَّر بين لوحةٍ وأخرى، فهو لا يستخدم أيٍّ من التشوُّهات مرَّتين، وكأن كل روح مشوَّهة على طريقتها، «لسنا سوى قطع من اللحم النيئ»، في معرض بيكون الذي تمت عنونته بـ«رؤوس».
كيف رأى فرانسيس بيكون ذاته؟
لقد قمت برسم العديد من الصور الذاتية لنفسي، بعد أن تساقط الأشخاص من حولي قتلى كالذباب، ولم يتركوا لي شخصًا آخر لأرسمه. *فرانسيس بيكون
كانت البورتريهات الثلاثة كرأسٍ يخرج من جحيمِ الطلاء الأسود، بدت وكأنّها بورتريهًا واحدًا ولكنَّه ثلاثي الأبعاد، كلُّ لوحة على حدة تحاكي جزءًا من الوجه قد تم تشويهه بإتقان، لا معنى للفضاء الذي يسكنه الجالس داخل اللوحات، والرؤية مقيَّدة بأجفانٍ تحمل في داخلها روحًا خربة، كانت اللوحات الثلاث لبيكون قد رسمها بين عامي 1979 و1980، وأراد بها الفنان أن يُخلِّد صورته بنفسه قائلًا: «وددت لصوري أن تبدو كما لو أن إنسانًا قد عبر من بينهما، مثل حلزون يخرج من درب الوجود البشري، مثل حلزون يخرج من الوحل».
كانت الصور الذاتية الثلاث ربما تحاكي الحياة المضطربة التي عاشها بيكون، كما رأى هو روحه وتشوُّهاتها؛ إذ لم يتلقَّ بيكون إلا القدر الضئيل من التعليم الرسمي، وذلك بسبب مرض الربو الذي لاحقه منذ أن كان طفلًا، كما كانت العائلة دائمة السفر؛ وهو الأمر الذي جعله ملازمًا للمنزل لفترةٍ طويلة. كانت والدته سيدة مجتمع، ووالده دائم الانشغال، مما جعله يعاني من طفولةٍ مضطربة، قضى فيها أغلب وقته مع المربية الخاصة، والحقيقة ان علاقته الأسرية بأبويه وأشقائه لم تزد إلا تعقيدًا، إذ وما إن شبَّ فرانسيس حتى أدرك أنه «مثليّ الجنس»، وهو الأمر الذي أجبر والده على طرده من المنزل عام 1926.
عاش بيكون بعدها حياة التشرد والتيه؛ جاب أنحاء لندن وبرلين وباريس؛ وعلى الرغم من آمال والده في أن يغير طرده من الطريق الذي اتخذه لنفسه، إلا أن تلك الخطوة لم تقده إلا لمزيدٍ من استكشاف هويته الجنسية، وكان للأمر بالغ الأثر في لوحاته المعادية للكنيسة وللدين؛ إذ حلَّلَ البعضُ ذلك بأنه تصرف عدائي ناتج عن موقف الدين والكنيسة من ميوله الجنسية.
(صورة أرشيفية لفرانسيس بيكون)
كانت بداية بيكون مع الفن في أواخر العشرينيات من القرن الماضي؛ إذ انتقل إلى شقة في لندن، وتعرف على الفنان روي دي مايستر، والذي أصبح فيما بعد معلمًا له، فشجعه على الرسم بالزيت، واتجه بيكون بعدها إلى الرسم السريالي، إلا أن لوحاته في تلك الفترة قد تم رفضها من قبل المعرض الدولي السريالي؛ مما كان له بالغ الأثر على إحباطه؛ إذ ترك الفن لفترةٍ طويلة، دمر خلالها أغلب أعماله قبل عام 1943، ولم يعثر منها سوى على 15 قطعة فقط.
كان بيكون مفتونًا بطريقة المصور الفيكتوري إدوارد مويبريدج في التقاط وتسجيل الأجسام المتحركة بصورةٍ متسلسلة، وهو الأمر الذي جعله يتخذ مويبريدج مصدرًا ومرجعًا يقوم بدارسته؛ إذ أراد أن يخلق عنصر الحركة داخل لوحاته، وهو ما نجح فيه فيما بعد، إذ ألهمته تلك الصور للعمل بطريقة متسلسلة، وهو ما تستطيع أن تراه في سلسلة لوحاته التي تتخذ عنوان «دراسة ثلاثية».
تقول عن ذلك إليزابيث جروز، أستاذ الفلسفة في جامعة سيدني، أن اللوحة بإمكانها أن تجعل المادة غير المرئية مرئية، وكان إنجاز بيكون والذي صنع منه واحدًا من أهم فناني القرن العشرين هو قدرته على التقاط قوى مراوغة مثل الحركة والوقت، وعند سؤالها، كيف يمكن للرسام أن يخلق حركة ووقتًا ووسيلة الرسم ذاتها ثابتة، أجابت أن بيكون كان يعمل في ثلاث لوحاتٍ مجمعة معًا، وهو ما يطلق عليه «لوحة ثلاثية»، وما يشير بقوة إلى عنصر الوقت، وذلك كان بخلاف السائد من الثلاثيات التقليدية والتي تصور ثلاثة مواضيع مختلفة ولكنها ذات صلة.
«غالبًا ما تكرر لوحات بيكون الثلاثية نفس الشكل، وهو ما يؤدي إلى نشأة علاقة دائرية في طريقة سرد اللوحات، بدلًا من السرد المستقيم»، هكذا وصفت جروز تميز لوحات بيكون بنجاحه في ترويض الحركة والوقت، وهو الأمر الذي بدأه بيكون في معرض عام 1944؛ إذ كان يلتقط نفس الصورة بفرشاته، ولكن من ثلاث وجهات نظرٍ مختلفة، وذلك لإيصال إحساس ثلاثي الأبعاد لجسدٍ متحرك.
(دراسة ثلاثية لصورة ذاتية: بيكون)
الحبُّ والانتحار!
كان لدى فرانسيس بيكون خلال حياته بلا شك العديد من العشَّاق، لكنَّه تمتَّع بذوقٍ خاص جدًا، يغلب عليه المازوخية، إذ كانت المتعة لديه مرتبطة دائمًا بالألم، مما جعل علاقاته تترك آثارًا على جسده وروحه، فكان هناك بيتر لاسي، والذي ألقى بيكون من نافذة زجاجية، مما تسبب في ضررٍ دائم بعينه اليمنى، إلا أن أحدًا لم يترك تلك العلامة التي لا تمحى من حياته وعمله سوى جورج داير.
ففي عام 1971، وفي حمام غرفة بفندق دي سانت بيري، وجد داير منتحرًا بجرعةٍ زائدة من المخدرات، وذلك قبل يومين فقط من افتتاح معرض بيكون في باريس؛ فكانت تلك الوفاة هي الشرارة التي أشعلت لوحات بيكون الأقوى في تاريخه.
كان انجذاب فرانسيس لداير هو في البدء انجذابًا لشيء مختلف عن نفسه قدر الإمكان، شابٌ مفتول العضلات، والذي اعتقد أنه حتمًا مجرم خطير، والحقيقة أن داير كان محتالًا فاشلًا للغاية؛ إذ كان دائمًا في السجن على الرغم من امتلاكه روحًا خجولة. قدَّم له بيكون حينها يد العون، والتقطه من تلك الحياة البائسة، وأعطاه من النقود ما يكفيه حتى لا يضطر إلى السرقة، أما بالنسبة إلى داير، فقد كان عالم هذا الفنان هو الوسيلة التي سيتمكَّن بها من مسح أي أثر لحياته السابقة.
(فرانسيس بيكون وجورج داير)
غرق الاثنان في علاقة محفوفة بالصراعات، متهمة بالحب، مليئة بالكحول وحياة السجون السابقة، إلا أن داير في الوقت نفسه قد أصبح مصدر إلهام لأقوى أعمال بيكون.
في الحقيقة كانت جاذبية الخطر الواهمة عامل جذب قوي بالنسبة إلى بيكون الذي سعى للتعرف إلى أكثر العصابات شذوذًا وعنفًا في تاريخ لندن قائلًا: «نعم كانوا مرعبين، وعلى استعداد كامل لقتل أي شخص، إلا أنهم كانوا مختلفين عن الجميع، وعلى استعداد للمخاطرة بكلّ شيء»، وقد اجتمعت كل هذه الغواية في شخصية داير والذي أحب مكانته الاجتماعية الجديدة لدى الفنان العظيم، وأحبَّ كونه مُلهمًا، فكان يسير داخل قاعات العرض، يشرب النبيذ ويتشدَّق بكلماتٍ مزعجة، ساخرًا من المبالغ الطائلة التي يدفعها هؤلاء – مرتادي المعارض – من أجل تلك اللوحات.
وفي خريف عام 1971، تم دعوة بيكون من أجل تكريمه في قصر باريس الكبير، وحينها أصرَّ داير على حضور حفل الافتتاح، إلا أن الاحتفاء الذي لاقاه فرانسيس عقب وصوله إلى مدينة النور سواء من الصحافيين أو المنظمين أجبروا بيكون على تجاهل دعوة داير إلى الحفل، فما كان من هذا الشاب إلا أن قابل هذا التجاهل بالانتحار.
بعد معرض باريس انزوى بيكون وانغلق على نفسه؛ إذ زهد في الحياة الصاخبة التي اعتادها قبل ذلك، كما زهد في رسم الآخرين، واتجه إلى رسم البورتريهات الذاتية، قائلًا إنَّ الآخرين تساقطوا قتلى حوله كالذباب ولم تبقَ سوى ذاته ليرسمها، بعدها أكمل مجموعة من اللوحات تكريمًا لذكرى داير، وربما لطلب المغفرة منه، وكأن الشعور بالذنب كان ما يحركه.