مقالات رئيس التحرير

فصل الدين عن السياسة

 

جميل عبدالله

إن نظرة شاملة لتاريخ العالم من الأعلى , مع الإدراك بأن مثل هذا المنظور يسطح كل ” الأختلافات ” , تتيح للمرء أن يميز بسهولة بين نقلتين محوريتين عظيمتين في العلاقة بين الدين والدنيا . والنقلة المحورية الاولى , كما أحسن ملاحظتها كارل جاسبرز ولجأ اليها ماكس فيبر كأساس لعلم أجتماع الدين الدنيوي – التاريخي الذي وضعه , كانت موجة التخلي عن الدنيا , تلك الموجة التي زعزعت بداياتها حوالي القرن السادس قبل الميلاد , حضارة قديمة تلو الاخرى , من الهند الى الصين ومن الشرق الادنى الى اليونان .
ساد هذا الموقف الجديد الذي يقوم على نبذ الدنيا أولاً في اوساط المفكرين والنخب والفلاسفة والأنبياء ولكن , في فترة لاحقة , تعمم هذا الموقف التبخيسي للدنيا سعياً وراء دنيا أسمى وأنقى بفضل الديانات الخلاصية الجديدة التي برزت بوصفها أهم النتائج الدنيوية – التاريخية لتلك النقلة النوعية . وفي حوض المتوسط على الأقل , قام مؤرخو الافكار والمؤرخون الأجتماعيون بتوثيق جيد لهذه النقلة الواسعة الانتشار من الدين العام الى الدين الخاص , من العبادة الجماعية الى الديانات الباطنية والخلاصية , من الإنسان المدني الى الإنسان الحداثي ومن الفلسفة الموضوعية الى الفلسفة الذاتية .
غير ان التحول الباطني للدين نحو الفرد الخاص سعياً وراء الخلاص , يحفل بالمفارقات العامة والنتائج الخارجية في الدنيا . فحين أراد الدين أن يترك هذه الدنيا وشأنها , لم تتمكن القوى الدنيوية على ما يبدو من أن تترك الدين وشأنه . الاعتقاد السائد هو ان الدين لله , لكن الاحزاب الدينية الدنيوية تبتعد عن هذا المفهوم , وتسيس الدين للمصالح الدنيوية الخاصة للجماعات , مثلما حدث في العملية السياسية في العراق .

الدين عامل مؤثر على طقوس الشعب العراقي كثقافة سطحية , لكن بعد 2003 اغلبية الاحزاب الدينية الحاكمة في العراق بجميع مذاهبها ارتكزت على الكسب الجماهيري من اجل زيادة العدد بواسطة الشعارات الدينية المتشابهه ايديولوجياً ومن نفس الطينة , وعبر ممرات المصالح الانتخابية المتكررة تطبع الشعب العراقي بكثرة الطقوس وتمثيلها من خلال السنة الواحدة والعطل الدينية على مسار السنة تغلف الشعب العراقي بسلفنة الدين , لكن كتطبيق واقعي وحقيقي للدين غير وارد في المجتمع العراقي , قد يحق لنا ان نقول الاحزاب الدينية المتمثلة مناطقية قد اثرت هذه المفاهيم على الشعب العراقي بالقوة والمصالح , بالإضافة الى ضعف نشاط الاحزاب العلمانية بالتوعية . لكن ايماني بالمتغيرات الاجتماعية الخارجية والثورات التكنلوجية المتطورة بشكل سريع ومؤثر قوي على تغير مسار المجتمعات في العالم الثالث وخاصة في العراق والمناطق المجاورة له . كما اكدت التجارب في العملية السياسية في العراق اغلبية الرموز التي تمثل الاحزاب الدينية السياسية هم عوائل لها جذور تاريخية قديمة احتفظت بشرعية معينة من اجل الاحتفاظ بمصالحها العائلية , وعدم الابتعاد سلطة هذه العوائل الى غيرها . نتمكن ان نستدل ان هذه الاحزاب السياسية الدينية ليس لها مشروع ايديولوجي يمكنها من اقناع المجتمع او السياسة المجتمعية المتواصلة والمؤمنة بالتطور العلمي والمجتمعي .