مقالات

فصل المقال بين الواقع والخيال:

 
أ م.د سامي محمود ابراهيم
 
رئيس قسم الفلسفة /كلية الآداب/ جامعة الموصل /العراق
شيء مخيف أن نفكر بمستوى الوعي المطلوب .. ستحتاج التجاهل والتغاضي والتناسي.. وحين طلب من البسطامي أن يشرح المعرفة، ما هي؟ قال ( إن الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون).. ظاهر الجواب لا علاقة له بالسؤال.، لكن عند التأمل في المعنى الذي اراده البسطامي هو عين الصواب وهو الجواب الصحيح.. ويكون ذلك فقط بنقله نوعية من ظاهر القول إلى باطنه.. فمن عادة الملوك اذا نزلوا قرية استعبدوا اهلها وجعلوهم اذلة لا يستطيعون فعل شيء الا بأمر الملك. وكذلك المعرفة : اذا دخلت القلب لا تترك فيه شيئا إلا أخرجته.
بهذا التخريج ندرك مقاصد الصوفية في قلق الحياة والمعرفة…
في حظرة النسيان سيمحو الزمن آثار أقدامنا على الأرض. ترى من سيخبر الأبدية اننا لعبنا ها هنا وضحكنا ها هناك. سيختزل الزمن تلك المسافة المضيئة بين الولادة والموت، حتى أن شمسنا ستغرب في عين / ح م ء ة، تحرق عند شفقها الكلمات ، وعند غسقها تصمت الحروف، ولا يبقى الإنسان عاقلا بجنسه ولا ناطاقا بنوعه، إذ سيهيم أمام مشهد عين الحقيقة . فلا حيلة لنا ونحن نترقب صيرورتنا المجهولة أمام هذا الغياب الذي يؤرقنا كل يوم..
تلك هي قمة المعاناة الكامنة في السردية الإنسانية ونحن على خشبة مسرح الحياة ننتظر سنوات وسنوات ليلفنا قطار الغياب. فنحن كما الجنود في رقعة الشطرنج نتقدم خطوة خطوة نحو تلك الحقيقة . كل ذلك في امتحان عسير إسمه الحياة، واسئلة صعبة جدا ومراوغة لا تقبل الانكشاف ولا الظهور ، وأصعب من تلك الاسئلة اجوبتها التي يشترط فيها معاناة الواقع بعسر وكبد.
سيبقى الإنسان يردد سؤال وجوده الكبير والمحير : من انا في هذا الكون الواسع المستمر في الاتساع ” وانا لموسعون”… من أنا في هذه الأكوان العملاقة وثقوبها السوداء التي يحار فيها الزمن ويتلاشى. فما عمر البشرية مع كرتهم الأرضية إلا عشر ثانية بالقياس إلى زمن الكون المعلوم بحدود مساحة ضئيلة من فضاء السماء الأولى والتي تقدر ب”١٥” مليار سنة.
فمسيرة وعي الإنسان قصيرة وفقيرة لا تكاد تذكر بالقياس إلى الوعي الكوني الغامض والمعقد على طول سبع سموات تمدها سبعة ابحر لا ينفذ عطاؤها. فحياتنا تشكيلة ظلال مزدوجة عكستها اشعة نور الوجود، وفي مكانها تتبعثر صور الأيام. .. هي رحلة مثيرة للتعجب مليئة باستعادة الأحلام وتأمل القادم. ونحن فيها نثير شفقة اللغة في احساسنا بالمعنى والشعور بالعيش، نقلب المجهول على ظلال الحقيقة في رغبات طفولية بريئة نترك عندها شيئا من انفسنا في المكان الذي تركناه. يحملنا إليه صوت الحنين الموجع إلى ذلك الزمان الذي احتل مكانا في حياتنا واندثر في صفحات الغياب. لكن تبقى هواجس الاخرة في هجرتنا إلى الله تتسع وتتكشف بعدها حجب الحياة . وهذا مقام روحي بليغ وتجربة وجدانية غزيرة عبر عنها الغزالي بقوله:
قد كان ما كان مما لست اذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وهذا ما جعله يكسر مغزل الحياة ويترك هواها قائلا:
غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد
لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
وبعد أن هجر هوى الدنيا عرف نفسه قائلا:
تركت هوى ليلى وسعدى
وعدت إلى تصحيح اول منزل
فالقطرة التي تدرك نفسها تنقلب رحمة على الأرض وفي البحر لؤلؤا وفي السماء نجما لامعا يسبح مع الخلاءق .
فعلى كتاب عمرنا وقسمات جبيننا رسالة امل خطها قلم القدر. رسالة في أهم فصولها تصوير دقيق لحقيقة الإنسان وهو يكابد سنين العمر . رسالة تسرد وبعمق أحداث وذاكرة الجسد . وهذا قريب من مشهد دروب عشب الريف وهي تجف في نهاية الربيع على آثار أقدام المارة . فلا يبقى الا الأثر. فهي ماضية بحكم القدر لكن تبقى الذكريات طقسا مرهقا من طقوسنا اليومية لتلك الأزمان التي انطفأت مرة واحدة دون رجعة …. هكذا في هدوء صاخب وعلى حين غفلة، ذهبت، لكن صداها يتردد في آذاننا ولن يزول . ضجيج غامض كان يوما ما حاضرا.
فالشوق مر إن ذكرنا غاءبا
عنا، وفقد الراحلين لنا أمر
فالحياة برمتها لا تساوي الماضي ولا تساوي الآن الحاضر ، بل هي تسير حتما نحو الما بعد/ المستقبل/ القادم/ تلك العبارة التي يستهلكها الخطباء، فالما بعد هو المهم وهو القصد .
لكن لا شيء يرضي الانا الفارغة المستهلكة في عالم اليوم .
حتى مجرد خروجنا لنزهة يحتاج شروط وقواعد واتكيت مقرف غارق في مسلمات المظهر. اورثتنا المدنية المعاصرة عقلا مخروبا وضميرا معتلا وفكرا مختل وارادة فقيرة .
لذلك لم يعد هذا العالم جميلا كما كان .