مشهد استقالة اثنين من كبار مسؤولي هيئة الإذاعة البريطانية المدير العام تيم ديفي ومديرة الأخبار ديبورا تيرنس في ظروف مهينة، يجب أن يثير القلق لدى كل من يقدّر قيمة الصحافة الصادقة. فالأمر لا يتعلق بزلة إعلامية عابرة، بل بخيانة جوهرية لما تمثله بي بي سي تاريخيًا.
ما الذي حدث فعلاً؟ التفاصيل صادمة ، في أكتوبر 2024، بثت “بي بي سي” برنامجها الوثائقي البارز بانوراما بعنوان “ترمب: فرصة ثانية؟” قبل أسبوع من الانتخابات الأميركية. أظهر البرنامج الرئيس السابق والحالي دونالد ترمب وكأنه يحثّ أنصاره على التوجه معه إلى مبنى الكونغرس قائلاً: “قاتلوا حتى النهاية”. تزامنت اللقطات مع موسيقى تنذر بالخطر ومشاهد لمتظاهرين من جماعة “براود بويز” اليمينية يلوّحون بالأعلام ويسيرون نحو المبنى، ما خلق انطباعًا واضحًا بأن كلمات ترمب هي التي حرّضتهم. لكن هذا كان تلفيقًا واضحاً. فقد جمعت “بي بي سي” ثلاثة مقاطع مختلفة من خطاب ترامب في 6 يناير 2021، مأخوذة من فترات زمنية متباعدة تقارب الساعة. وما قاله ترامب في الحقيقة كان “سنسير نحو مبنى الكابيتول وأعلم أنكم جميعًا ستتوجهون قريبًا إلى هناك لتُسمِعوا أصواتكم بطريقة سلمية ووطنية.”
والأسوأ أن مقطع “براود بويز” صُوّر في الساعة 10:58 صباحًا، أي حتى قبل أن يبدأ ترمب خطابه أساسًا. وهو ما يعني أنه تم التلاعب بالتسلسل الزمني بالكامل لصناعة رواية غير موجودة.
لكن الخطيئة الأصلية لم تكن في المونتاج بل في الدفاع عنه وموقف القناة عند انكشافه. فعندما حذّر مايكل بريسكت، المستشار السابق للجنة معايير التحرير في “بي بي سي”، من خرق المعايير، ردّ المسؤولون بأن ما حدث ممارسة عادية ورفضوا الاعتراف بوقوع تجاوز.
تخيل أن قيادة “بي بي سي” دافعت عن جعل رئيس أعظم دولة وأعظم حليف لبريطانيا يبدو وكأنه قال ما لم يقله مبرّرةً ذلك بأن لجنة الكونغرس الأميركية ذات الغالبية الديمقراطية توصّلت لاستنتاج مشابه وكأن الإجماع السياسي يبرر اختلاق الأدلة!.
وفي وجهة نظري أن الأمر أخطر مما يظن الجميع ، اليوم هناك تآكل في الثقة بالإعلام، وعندما تتورط ما تزعم أنها أكثر مؤسسات البثّ احترامًا في العالم والممولة من دافعي الضرائب البريطانيين بمبلغ 174.50 جنيهًا إسترلينيًا سنويًا لكل أسرة في هذا النوع من الخداع، فإن الضرر لا يصيب بي بي سي وحدها، بل يلوّث مصداقية الصحافة كلها.
وما يزيد الوضع سوءًا هو التوقيت المقصود حيث تم عرض الفيلم قبل أسبوع من الانتخابات الأميركية مباشرة. وقد اعتبر فريق ترمب ذلك محاولة للتأثير في الانتخابات، وهي تهمة من الصعب نفيها حين يكون التلاعب بهذا الوضوح.
اخيرا استقال ديفي وتيرنس ، لكن بعد أن تفجّرت الفضيحة وهدّد ترمب برفع دعوى قضائية قيمتها مليار دولار. أما تصريح تيرنس بأن الادعاءات الأخيرة حول انحياز بي بي سي المؤسسي غير صحيحة فهي تصريحات عبثية خصوصًا وهي تعترف في الوقت نفسه بأن الأخطاء وقعت.
نعم الأخطاء تحدث في كل وسائل الإعلام ، لكن الخطير هنا أن ما حدث لم يكن خطأً عرضيًا، بل سلسلة قرارات اتخذها منتجون ومحررون ومديرون تجاهلوا معاييرهم التحريرية أو خرقوها عمدا دون محاسبة، والأسوأ أن بريسكت اضطر إلى تسريب القضية إلى مجلس إدارة القناة بعد تجاهل رئيس المجلس سمير شاه شكاواه.
في الإعلام يُعدّ الاختصار لأغراض زمنية أمرًا مشروعًا في الصحافة ، لكن هناك خطًا فاصلًا بين التوضيح وإعادة تركيب الواقع. وما فعله برنامج بانوراما لم يكن تحريرًا، بل عملا متعمدا عبر حذف كلمات مثل سلميًا ووطنيًا لتبقى فقط المقاطع الغاضبة التي تخدم السردية المطلوبة.
وحين تقرر مؤسسة إعلامية هامة أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن خطر ترمب على الديمقراطية يبرر اختلاق الأدلة ضده، فهي تتحول إلى الخطر ذاته الذي تزعم مواجهته. فهي بذلك تمنح المصداقية لترمب ولكل الاتهامات التي يوجّهها باستمرار إلى وسائل الإعلام التي يصفها بالمزيّفة.

