بسام ناصر
وفقا للمؤلف فثمة جماعات دينية وتيارات فكرية تختلف كليا مع نظرية ولاية الفقيه
تلعب السلطة السياسية دورا مركزيا في إشاعة نظرية دينية ما، حتى تغدو كأنها هي الأصل في ذلك المذهب الديني، وهو ما ينطبق تماما على نظرية “ولاية الفقيه” في المذهب الشيعي الإمامي، التي رفعتها الممارسة السياسية للشيعة الإمامية الاثني عشرية منذ نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية سنة 1979 إلى مصاف مقررات المذهب، حتى كادت تقضي على كل النظريات والأفكار المقابلة لها في الفقه الشيعي التقليدي.
في هذا السياق، تأتي دراسة الباحث المصري المتخصص في الفقه السياسي الإسلامي (السني والشيعي)، محمد السيد الصياد، الموسومة بـ”فقه الانتظار.. التيارات الدينية الإيرانية والصراع على الحق المطلق للفقيه في الولاية”، الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانية في 2018؛ لإبراز تلك الأفكار والنظريات المندرجة في أدبيات الفقه الشيعي الإمامي، تحت عنوان “فقه الانتظار”، وهي الفكرة المركزية المقابلة لنظرية “ولاية الفقيه”.
ووفقا للمؤلف، فثمة “جماعات دينية وتيارات فكرية تختلف كليا مع نظرية ولاية الفقيه، وما زالت تتمسك بالفقه الشيعي التقليدي “فقه الانتظار”، باعتباره أولا معبّرا عن حقيقة التشيع وممارسة الأئمة والفقهاء الأولين، وباعتباره ثانيا منجاة من الفشل السياسي والديني لنظرية ولاية الفقيه، وتسببها في تشويه سمعة المذهب ورجال الدين والحوزة، وتحميلها مسؤولية زيادة موجات الإلحاد، فازداد توهج تيارات “فقه الانتظار” كردّ فعل طبيعي على هذا الفشل، محاولين إبعاد الدين والمذهب عن السياسة، وعن سخط الجماهير وأمزجتها المتقلبة بفعل النجاح أو الفشل السياسي”.
أهمية الكتاب
يكتسب الكتاب أهميته من كونه يتصدى بشكل مباشر لإظهار مدى هشاشة الرؤية التفسيرية المقللة من شأن الخلافات والصراعات الداخلية بين التيارات الدينية الإيرانية في مدارسها واتجاهاتها المتعددة بين الخط الفقهي التقليدي، والحركة الدستورية الإصلاحية، ونظرية ولاية الفقيه التي أضحت بقراءتها الخمينية المرجعية المعتمدة في الدولة الإيرانية بعد نجاح الثورة الإسلامية، وصعود الخميني إلى مرتبة الحاكم الفعلي المسيطر على مقاليد السلطة في الدولة؛ إعمالا لنظرية “ولاية الفقيه”، وبصفته نائبا عن الإمام المنتظر.
وتتعاطى تلك الرؤية المقللة من شأن خلافات التيارات الدينية الداخلية، من منظور الخلافات الشكلانية التي لا تتعدى دور توزيع الأدوار بين مختلف تلك التيارات، مع اشتراكها جميعا في مركزية دور الولي الفقيه المتحكم في مفاصل الدولة الإيرانية، لكن الكتاب يظهر بسردياته التاريخية الموثقة، ورصده الدقيق لأفكار ونظريات ومقولات مراجع الشيعة العظام عبر محطات زمنية متتابعة حقيقة الاختلافات والصراعات في الوسط الحوزوي الشيعي الإمامي الاثني عشري، وليس الأمر كما تصوره تلك الرؤية الغارقة في تبسيط القضايا المعقدة والملتبسة.
وتتأكد أهمية الكتاب بما عدّه الباحث الصياد في مقدمة كتابه مفتاحا هاما لفهم الطريقة التي تدار بها السياسة في إيران، فـ”إيران دولة دينية في المقام الأول، ولا يزال رجال الدين مسيطرين على مقاليد الأمور فيها، ولا تزال تلك العقول تتشكل في الأروقة العلمية والدروس الحوزوية، ومن ثَمَ فالغوص في بنية تلك الأروقة مهم جدا لفهم عقلية رجل الدين والسياسي الإيراني، علاوة على أن تفكيك الخارطة الدينية في إيران، والوقوف على عقليات رجالها، يؤدي بطبيعة الحال إلى فهم مآلات ومكونات القرار السياسي، والأسس الفلسفية والفقهية التي ينبني عليها”.
عقيدة الانتظار
في مقابل نظرية “ولاية الفقيه”، التي أحدثت انقلابا جذريا على مقررات المذهب الشيعي الاثني عشري فيما يتعلق بالشأن السياسي، تحتل عقيدة الانتظار مكانا مركزيا في الفقه الشيعي التقليدي، وهو ما انعكس على أتباعها والمؤمنين بها باعتزالهم المبدئي للسياسة، ورفضهم إقامة أي حكومة، انتظارا لظهور الإمام المعصوم المنتصر، لأن أي دولة تقوم أو أي راية ترفع قبله تعدّ -بحسب رواياتهم- راية طاغوتية، فالإمام المهدي المنتظر هو المكلف بإقامتها، وقد تبنت المدرسة الإخبارية تلك المقولات، وعدتها من صلب عقائد المذهب، وبقي الأمر على ذلك مئات السنوات.
يتتبع المؤلف مسيرة المذهب الإمامي الشيعي، راصدا مواقفه من المشاركة السياسية، والتي بقيت ملتزمة بمقررات المذهب القاضية باعتزال السياسية لحين ظهور الإمام المهدي، مشيرا إلى بعض المحطات التي شهدت مشاركة في العملية السياسية، كتولي الشريف المرتضى -وهو من المرجعيات الإمامية التاريخية- مناصب سياسية في ظل الدولة العباسية، من باب مشروعية الشراكة لا مشروعية السلطة المغتصبة”.
ومن المحطات الهامة التالية ظهور “الإصلاحية الشيعية” حين قامت الثورة الدستورية سنة 1905، وقد تبنت هذه الإصلاحية دمقرطة الدين والمذهب والمجتمع، وآمنت بالدولة الدستورية، وكان الفقيه النائيني يعتبر المنظر الفكري لها من خلال تأليفه كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، لكن الحوزة الرسمية حتى مع ظهور الإصلاحية الشيعية “بقيت ضد فكرة السياسة وضد فكرة الدستور.. واتخذت من الدستوريين موقفا عدائيا للغاية، بوصفهم عملاء الغرب والاستعمار، وأنصار العلمنة والتغريب”.
أما ما قام به الخميني ورفيقه الشيرازي، فقد أحدثا -طبقا للكتاب- قفزة قوية في الدرس التاريخي الشيعي، وخرجا عن ثنائية الفقيه والسلطان الصفوية، ودستورية النائيني، وتقليدية الحوزة الرسمية، وتبنى الرجلان نظرية “ولاية الفقيه”، التي أعطي فيها الفقيه صلاحيات واسعة في الدين والدنيا، فقها وسياسة ومجتمعا، أو يمكن القول إن كل صلاحيات الإمام المعصوم أعطيت للولي الفقيه، فبدلا من انتظار المعصوم تم نقل صلاحياته إلى الولي الفقيه على يد الخميني، ثم انشق محمد الشيرازي عن الخميني بُعيد نجاح الثورة، وارتأى أن ولاية الفقيه فشلت في الحكم، وأنها نظرية لم تراع الواقع السياسي وتعقيداته وتشابكاته، وخرائط صراعاته، وتبنى نظرية “شورى الفقهاء”.
ويشير المؤلف إلى أنه وكردة فعل على ممارسة وتطبيقات “ولاية الفقيه”، ظهرت في مرحلة تالية أفكار قريبة جدا من خط النائيني، وهي تيارات محسوبة على الإصلاحية الشيعية، مثل نظرية “ولاية الأمة على نفسها” للعلامة مهدي شمس الدين، أو نظرية “العلمانية المؤمنة” لحسن الأمين، ويمكن اعتبار خط حسين فضل الله ضمن هذا التيار، رغم مواقفه المذبذبة في بداية الأمر، لكنه تحول تدريجيا ليستقر قريبا من تيار العلمانية المؤمنة..”.
ويخلص المؤلف بعد تتبعه لمسارات الخط المذهبي عبر محطاته الهامة إلى القول: “والحاصل أن الساحة الدينية الإيرانية متشابكة ومعقدة جدا، وليست ذات لونين فقط، بل ما أكثر المناطق الرمادية، والكثبان الرملية فيها، وهو ما يجعل الجزم المنهجي فيها بالغ الصعوبة”، لكن “في كل هذه المعمعة الفقهية والأصولية بقيت التقليدية الشيعية متشبثة بفقه الانتظار، مع ما تعرضت له من ضغوط سياسية ومالية؛ كي تتنازل عن أطروحتها، وتتبنى المنهج الجديد للنظام الإيراني، وقد أثرت تلك الضغوط على أجنحة وقطاعات في الحوزة، لا سيما مع حرمان المخالفين من مزايا كثيرة، فأدى ذلك إلى تبني جماعات دينية لها وزنها وثقلها في أوساط التقليدية الشيعية، استشعارا منها بتوغّل وتغوّل السلطة السياسية على استقلالية الحوزة، والتأثير في قراراها الديني ومخرجاتها الفقهية”.
سلطوية الفقيه والحوزة
يتتبع المؤلف مظاهر الانقلاب الذي أحدثه الخميني على الميراث الفقهي والعقدي في الدرس الحوزوي، الذي ترك أثرا كبيرا على مسار التشيع برمته، ومنها أنه أحل -بذكاء- تام نظرية “التمهيد” محل نظرية “الانتظار” في الحوزة الدينية بمدينة قم، ومن ثم تفريح العلماء سيكون وفقا لتلك النظرية، ويبرر الخميني لذلك التحول بقوله: “قد مر على الغيبة لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام، وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر، في طول هذه المدة، هل تبقى أحكام الإسلام معطلة، يعمل الناس خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟..
ويلفت الباحث الصياد إلى أن “هذا النص خطير جدا في التبرير العقلاني للانقلاب على الموروث العقدي والدرس الديني المستقر، وبإقرار من الخميني نفسه للأسباب التي ذكرها، وهي في مجملها عقلانية وليست نصوصية، ما يتيح له القفز الفلسفي على مستقرات المذهب، وعلى أقوال الفقهاء القدامى الذين هم بمثابة أعمدة المذهب”، وهو ما يظهر بوضوح لماذا أعلى الخميني من قيمة الفلسفة العرفانية كمنهجية للنظر والاستدلال، متحررا من منهجية الاستدلال النقلي والروائي المقررة، وبعيدا عن الخلافات العميقة بين المدرستين الإخبارية والأصولية.
ومن المظاهر الهامة التي أحدثها الخميني -كما فصلها المؤلف- أنه بعد تنبهه إلى إشكالية الفقيه والسلطان التاريخية، جعل الفقيه سلطانا، والسلطان فقهيا، فأصبح الفقيه هو صاحب الصلاحيات المطلقة والمالك للقوة في الدولة والمتحكم في تدبير شؤونها، لكل ذلك فإن الخميني مارس سلطته القمعية تجاه كل الفقهاء المعارضين لنظريته “ولاية الفقيه” كأستاذه آية الله شريعتمداري، وتلميذه النجيب حسين منتظري، وغيرهم من الفقهاء الآخرين، فأمم المذهب والحوزة، وهو ما بات نهجا مستقرا في عهد المرشد الحالي علي خامنئي.
يطرح المؤلف في خاتمة كتابه بعد استعراضه لمقولات وأفكار مختلف التيارات الدينية الإيرانية، بمدارسها واتجاهاتها المتعددة، وطبيعة خلافاتها العميقة بشأن المشاركة السياسية، سؤالا جوهريا وهاما، ألا وهو: إذا كانت جل الحركات والجماعات الشيعية المركزية الموجودة على الساحة الإيرانية ضد نظام ولاية الفقيه، بالإضافة إلى قطاع كبير من داخل التقليدية الشيعية، فلماذا لا تثور عليه؟ وهو ما فصل جوابه بنفس تحليلي في خاتمة الكتاب.
هذا واشتمل الكتاب على ستة فصول، تناول في الأول المدرسة الإخبارية، وتحدث في الثاني عن المدرسة الشيرازية، وعرض في الثالث للمدرسة التفكيكية، وشرح في الرابع نشأة ومقولات ومواقف “جماعة الحجتية في إيران”، وخصص الفصل الخامس لـ”المهدوية والتوظيف السياسي في إيران، أما الفصل السادس فأفرده للحديث عن “سلطوية الفقيه والحوزة”.