محمد خالد الأزعر
جنوح بعض الاجتهادات والمجتهدين حول كيفية تسوية قضية فلسطين إلى تداول خيارات شبه خيالية، مثل حل الدولة الواحدة للشعبين اللدودين، الإسرائيلي المعتدي والفلسطيني المعتدى عليه، أمر يرهق الذهن وربما كان موضعاً للنقد والمعاتبة.
العقبة الكؤود في وجه تنفيذ نموذج الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية، سواء أخذ شكل الثنائية القومية أو الدولة الاتحادية أو دولة كل مواطنيها، أنه ينطلق من نقطة الاعتراف المتبادل ونبذ التعالي والإحساس بالفوقية من قوم على قوم أو من إنسان على إنسان أو من عقيدة على عقيدة، وتنحية المشروعات الكيانية الخاصة بالمشاركين لمصلحة الكيانية المشتركة العتيدة. وهذه ونحوها مُثل إنسانية وخصائص ديموقراطية، بعيدة تماماً من العقل الصهيوني الإسرائيلي بشقيه النظري والتطبيقي. بكلمة جامعة، يحتاج تطبيق هذا الخيار إلى زوال الفكرة الصهيونية وهزيمتها كحد أقصى، أو التخلي الإسرائيلي عنها والتبرؤ من روايتها وهيمنتها النظرية وكثير من نتائجها على أرض الواقع كحد أدنى. ولا دلائل على توفر أحد هذين المحددين أو كلاهما في المرحلة الراهنة ولا في مستقبل قريب.
كان حل الدولة الديموقراطية الواحدة، أول الحلول التي طرحها الفلسطينيون لتحديد مصير وطنهم، وفقاً للمعطيات السكانية القائمة فيه. حدث هذا قبل تسعين عاماً، وقت أن كان الصهاينة يتلمسون الطريق إلى تطبيق مشروعهم الاستيطاني، تحت رعاية الانتداب البريطاني. ثم إن الحركة الوطنية الفلسطينية أعادت هذا العرض، حين كان الصدام الصهيوني العربي في أوجه قبل خمسين عاماً. وفي المرتين لم يلق هذا الحل أي تجاوب صهيوني للسبب ذاته، وهو السعي إلى الإفلات بجريمة الاستيلاء على فلسطين، خالصة تماماً من كل أثر لشراكة فلسطينية متساوية، لا سيما إن عبرت هذه الشراكة عن ذاتها في هوية سياسية بأبعاد ومضامين دولتية.
حل الدولة الواحدة يقوم في أصله وفصله على أرضية من التوافق والتوفيق، بين أصحاب خلفيات تاريخية ومصالح مادية وعقائد فكرية وثقافية ونوازع سياسية، يمكن إيجاد خطوط للتلاقي والتقاطع في ما بينها. قناعة الفلسطينيين بذلك هي التي ساقتهم، لغير مرة، إلى طرح مفهوم الدولة الواحدة بين طوائف الوطن الواحد من مسلمين ومسيحيين ويهود. وكان شرط الشارط هو استبعاد الفكرة الصهيونية والسياسات المرتبطة بتطبيقها وأبرزها تصريح بلفور والهجرة اليهودية. غير أن محاولة الاستئثار الصهيوني بهذا الوطن لليهود، وحدهم، تحت ذرائع دينية ودنيوية، هي التي كانت ولا تزال العائق الجوهري في إفشال هذا الهدف. نحسب أن أحد أهم الشروط المطلوبة لمنح هذا الحل فرصة النجاح راهناً، يتعلق بتخلي إسرائيل عن قانون العودة الصهيوني، الذي يسمح لأي يهودي في هذا الكون الفسيح، باكتساب الجنسية الإسرائيلية فور وصوله إلى “أرض الميعاد”. وهذا فرض يبدو مستحيل التحقق، كونه يلغي حال وقوعه الركيزة الأساسية للفكرة الصهيونية، معلناً إغلاق أبواب فلسطين التاريخية على من فيها من اليهود دون غيرهم. الصهاينة المؤسسون رفضوا هذا التصور، في الزمن الذي كان يحبو فيه “الييشوف”، فكيف الحال بورثتهم اليوم، وقد انتصبت لهم دولة وسيطروا بالاغتصاب والاحتلال على فلسطين بقضها وقضيضها؟! كيف لهؤلاء أن يتخلوا طواعية عما يعتبرونه مكتسبات لهم؟ ولمن؟ للفلسطينيين الذين يعيشون في وضعية من الضيق و “الزنقة” السياسية والاقتصادية، بين انقسام داخلي موجع وبين عالم عربي منشغل عنهم وبين محيط دولي فاتر يكاد يسقطهم من حساباته؟ علاوة على هذه المعالجة المغرورة، يذهب معظم النخب السياسية والفكرية الصهيونية إلى أن “الدولة الواحدة” ليست سوى فخ يقصد به الفلسطينيون إغراق القوام السكاني اليهودي فيها بأغلبية بشرية، ستتوافر لهم في أجل أو آخر، بسبب تفوقهم الطبيعي في صراع الأرحام والمواليد. ويزداد تأثير هذا الهاجس، بفعل توكيد بعض الفلسطينيين والعرب عليه، واستخدامه كفزّاعة وصولاً إلى تسميته بالقنبلة الديموغرافية. ما يبديه البعض من حماسة لحل الدولة الواحدة بين يدي معطيات الحالة في فلسطين، يجعل المرء يتذكر القولة المنسوبة إلى الملكة ماري أنطوانيت زمن الثورة الفرنسية: “إذا لم يكن هناك خبز للفقراء، دعهم يأكلون كعكاً”. هل يعني ذلك أن المعنيين بالتسوية الفلسطينية يراوحون اليوم بين حل الدولتين الصعب، وبين حل الدولة الواحدة شبه المستحيل، وبين استمرار الأمر الواقع الأكثر استحالة؟ ربما كان الأمر كذلك بالفعل.